القاعدة السابعة : التثبت في الأمور وعدم العجلة :
على الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ، الداعي إلى الله تعالى التأكد من كل أمر والتثبت بشأنه ، وعدم التسرع والعجلة ، والحرص على الرفق والأناة بالناس وملاطفتهم حال أمرهم أو نهيهم ، فإن في ذلك من الخير ما لا يحصى ، وهو مما لا بد منه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي دعوة الناس إلى الخير.
قال تعالى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } (1) ، والتبين والتثبت صفة من صفات أهل اليقين من المؤمنين ، يقول الإمام الطبري - رحمه الله - : عند قوله تعالى : { قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } (2) وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون ، لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة ، فأخبر الله جل ثناؤه أنه بين لمن كانت هذه الصفة صفته ما بين من ذلك ، ليزول شكه ، ويعلم حقيقة الأمر) (3) .
وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه ، كما ذم الكسل والتباطؤ ، ونهى عنه ، ومدح الأناة والتثبت فيها .
_________
(1) سورة القيامة ، الآية 16 .
(2) سورة البقرة ، الآية 118 .
(3) تفسير الطبري ، 1 / 515 .
قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } . (1)
قرأ الجمهور { فَتَبَيَّنُوا } من التبين ، وهو التأمل ، وقرأ حمزة والكسائي : ( فَتَثَبَّتُوا ) ، والمراد من التبين التعرف والتفحص ، ومن التثبت : الأناة وعدم العجلة ، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر. (2)
والدعاة إلى الله تعالى أولى بامتثال أمر الله عز وجل بالتأني والتثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق الجيد من مصدرها قبل الحكم عليها.
والداعية الحصيف إذا أبصر العاقبة أمن الندامة ، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبر جميع الأمور التي تعرض له ويواجهها ، فإذا كانت حقا وصوابا مضى ، وإذا كانت غيا ، وضلالا وظنا خاطئًا وقف حتى يتضح له الحق والصواب .
والواقع المشاهد أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد في المجتمع ، قال تعالى { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا } (3) .
_________
(1) سورة الحجرات ، الآية 6 .
(2) فتح القدير ، للإمام الشوكاني 5 / 60 .
(3) سورة الإسراء ، الآية 11 .
ولعظم أمر التثبت أمر الله به حتى في جهاد الكفار في سبيل الله . قال تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (1) .
ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } قال :(( كان رجل في غُنيمة له ، فلحقه المسلمون ، فقال السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غُنيمته ، فأنزل الله في ذلك إلى قوله { عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } تلك الغُنيمة )) (2)
_________
(1) سورة النساء ، الآية 94 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح ، 8 / 258 ، كتاب التفسير ، سورة النساء ، باب : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا . رقم 4591 .
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة ، قال : فصبحنا القوم فهزمناهم ، قال : ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، قال فلما غشيناه ، قال : لا إله إلا الله ، قال : فكف عنه الأنصاري ، فطعنته برمحي حتى قتلته ، قال : فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فقال لي : « يا أبا أسامة ، أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ قال : قلت: يا رسول الله ، إنما كان متعوذا ، قال : فقال : أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ قال فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم » (1) .
وفي رواية قال : قلت يا رسول الله : إنما قالها خوفا من السلاح ، قال : « أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا » ، فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ (2)
وفي رواية : « كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ » قال : يا رسول الله : استغفر لي ، قال : « وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ » قال : فجعل لا يزيده على أن يقول : « كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة » (3) .
_________
(1) صحيح البخاري مع الفتح ، 7 / 517 ، كتاب المغازي ، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة إلى الحرقات . رقم 4269 ، وصحيح مسلم ، 1 / 97 كتاب الإيمان ، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله ، رقم 159 .
(2) صحيح مسلم ، 1 / 96 ، كتاب الإيمان ، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال : لا إله إلا الله ، رقم 158.
(3) صحيح مسلم 1 / 97-98 ، كتاب الإيمان ، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله . رقم 160 .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تثبتا وأناة في الأمور ، فكان صلى الله عليه وسلم لا يقاتل أحدا من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - « أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر ، فإن سمع أذاناً كف عنهم ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم ..)) » (1)
ومن تعليمه وتربيته لأصحابه - صلى الله عليه وسلم - على الأناة وعدم العجلة أن أبا هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسعون ، وأتوها تمشون ، وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا » (2)
_________
(1) صحيح البخاري مع الفتح ، 2 / 89 ، كتاب الأذان ، باب ما يحقن بالآذان من الدماء ، رقم 610 ، وصحيح مسلم 1 / 288 ، كتاب الصلاة باب الإمساك عن الإغارة إلى قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان ، رقم 382 .
(2) صحيح البخاري مع الفتح ، 2 / 390 ، كتاب الجمعة ، باب المشي إلى الجمعة ، رقم 908 ، ومسلم 1 / 420 ، كتاب المساجد ، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة، رقم 602 .
ومن فقه قصة الخضر مع موسى عليه السلام ، وقصة الهدهد مع سليمان عليه السلام وغيرهما من التوجيهات القرآنية والنبوية ، استنبط العلماء أحكاماً في الإنكار ، من التثبت والتروي والاستخبار قبل الإنكار ، فها هو القاضي أبو يعلى يذكر في الأحكام السلطانية ، ما يتعلق بالمحتسب فيقول : ( .. وإذا رأى وقوف رجل مع امرأة في طريق سالك لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرض عليهما بزجر ولا إنكار ، وإن كان الوقوف في مكان خال فخلوُّ المكان ريبة ، فينكرها ولا يعجل في التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم ، وليقل ( إذا كانت محرم فصنها عن موقف الريب ، وإن كانت أجنبية فاحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله عز وجل ) وليكن زجره بحسب الأمارات، وإذا رأى المحتسب من هذه الأمارات ما ينكرها تأنى وفحص وراعى شواهد الحال ، ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار ) (1) .
_________
(1) الأحكام السلطانية ، لأبي يعلى الحنبلي ، ص293 ، وانظر الآداب الشرعية ، لابن مفلح ، 1 / 302 .
وبهذا يتبين لنا أنه ينبغي للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الداعي إلى الله تعالى على بصيرة وحكمة أن يتثبت ويتأنى في الأمور ، وأن ينظر إلى المصالح العامة ، وما يترتب على الكلمة التي يقولها من عواقب ، وأن يحترم علماءه، ويسمع لكلامهم ويأخذ بتوجيهاتهم ، ويطيع ولاة أمره في غير معصية .
وليعلم الداعي إلى الله أن التسرع والعجلة وعدم النظر قي العواقب يسبب الفشل والندامة له ولدعوته .
وأحب أن أنبه إلى أن العجلة المذمومة هي ما كان في غير طاعة الله تعالى ، أما المسارعة في عمل الآخرة بالضوابط الشرعية التي شرعها الله تعالى فإنها غير داخلة في ذلك، قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } (1) ، وقال موسى عليه السلام : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } (2) .
• • •
_________
(1) سورة الأنبياء ، الآية 90 .
(2) سورة طه ، الآية 84 .