مفهوم الأخلاق .. أصالتها في الفكر الإسلامي .. وظائفها
ما الأخلاق؟
لكلمة «الأخلاق» وكلمة «خلقي» تأثير خاص، كان مدعاة للاختلاف حول تحديد هذا اللفظ، ومن ثمّ تعددت الآراء حول تحديد معنى الأخلاق لغة واصطلاحا على النحو الذي نوضحه فيما يلي:-
الأخلاق لغة:
الأخلاق في اللغة جمع خلق، والخلق اسم لسجية الإنسان وطبيعته التي خلق عليها، وهو مأخوذ من مادة (خ ل ق) التي تدل على تقدير الشيء. يقول ابن فارس: ومن هذا المعنى (أي تقدير الشيء) الخلق، وهو السّجية لأن صاحبه قد قدّر عليه، يقال: فلان خليق بكذا (أي قادر عليه وجدير به)، وأخلق بكذا أي ما أخلقه، والمعنى هو ممن يقدّر فيه ذلك، والخلاق: النصيب لأنه قد قدّر لكل أحد نصيبه «1».
وقال الراغب: الخلق والخلق (والخلق) في الأصل واحد لكن خصّ الخلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة «2». قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم/ 4)، الخلق العظيم هنا هو- كما يقول الطبري- الأدب العظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه اللّه به وهو الإسلام وشرائعه، وقد روى هذا المعنى عن ابن عباس- رضي اللّه عنهما- في قوله: لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ المعنى: على دين عظيم وهو الإسلام. وعن مجاهد في قوله: خُلُقٍ عَظِيمٍ قال: الدين. وعن عائشة- رضي اللّه عنها- عند ما سئلت عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالت: «كان خلقه القرآن». قال قتادة: تقول: كما هو في القرآن «3».
وذكر القرطبي أن المراد بالخلق العظيم أدب القرآن، وقيل: هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقيل المراد: إنك على طبع كريم «4»، وقال أيضا: حقيقة الخلق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب لأنه يصير كالخلقة فيه، وأما ما طبع عليه الإنسان من الأدب فهو الخيم أي السّجية والطبع، وعلى ذلك يكون الخلق: الطبع المتكلف، والخيم الطبع الغريزي، وقد ذكر الأعشى ذلك في شعره فقال:
وإذا ذو الفضول ضنّ على المو ... لى وعادت لخيمها الأخلاق
أي رجعت الأخلاق إلى طبيعتها «5». وقد رجح القرطبي تفسير عائشة- رضي اللّه عنها- للخلق العظيم
__________
(1) مقاييس اللغة لابن فارس 2/ 214.
(2) المفردات للراغب ص 158.
(3) انظر هذه الآثار (وغيرها مما لا يخرج عنها) في تفسير الطبري، مجلد 12، جزء 28، ص 13 (ط. الريان).
(4) تفسير القرطبي 18/ 227.
(5) المرجع السابق نفسه، الصفحة نفسها.
بأنه القرآن «1»، وسمي خلقه عظيما لأنه لم تكن له صلّى اللّه عليه وسلّم همة سوى اللّه تعالى، وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، وقيل: لأنه امتثل تأديب اللّه إيّاه «2». وقال الماوردي في الخلق العظيم ثلاثة أوجه: أحدها: أدب القرآن، الثاني: دين الإسلام، الثالث: الطبع الكريم وهو الظاهر.
قال: وحقيقة الخلق ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب، سمي بذلك لأنه يصير كالخلقة فيه «3».
والخلاق: ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه «4». قال تعالى: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (البقرة/ 102)، الخلاق قيل: النصيب، وقيل: الدين، وقيل: القوام، وقيل: الخلاص، وقيل: القدر «5»، والأول قول مجاهد.
قال القرطبي: وكذلك هو عند أهل اللغة إلّا أنه لا يكاد يستعمل إلّا للنصيب من الخير «6». والخليقة: الطبيعة، وجمعها خلائق، قال لبيد:
واقنع بما قسم المليك فإنّما ... قسم الخلائق بيننا علّامها
والخلقة (بالكسر) الفطرة، يقال: خلق فلان لذلك، كأنه ممن يقدّر فيه ذلك وترى فيه مخائله. والخلق والخلق: السّجية، وفلان يتخلق بغير خلقه أي يتكلفه، قال الشاعر (سالم بن وابصة):
يا أيّها المتحلّي غير شيمته ... إنّ التّخلّق يأتي دونه الخلق «7».
وقال ابن منظور: الخلق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما (أي للصورتين) أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق «8»، أما قول اللّه تعالى: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (الشعراء/ 137). فالخلق قيل: هو شيمة الأولين، وقيل: عادة الأولين، أما قراءة خلق (بفتح الخاء وسكون اللام)، فالمراد به الافتراء والكذب «9»، أي أنه في معنى الاختلاق وقال صاحب «التحرير والتنوير» في تفسير هذه الآية: الخلق السجية المتمكنة في النفس باعثة على عمل يناسبها من خير أو شر، وتشمل طبائع الخير وطبائع الشر ولذلك لا
__________
(1) انظر حديث عائشة- رضي اللّه عنها- في صفة حسن الخلق (حديث رقم 5).
(2) تفسير القرطبي 18/ 228.
(3) تفسير الماوردي (النكت والعيون) 6/ 61- 62.
(4) مفردات الراغب 158.
(5) تفسير البحر المحيط لأبي حيان 1/ 503.
(6) تفسير القرطبي 2/ 56.
(7) الصحاح 4/ 471.
(8) لسان العرب 10/ 86 (ط. بيروت)، وانظر هذه الأحاديث في صفة حسن الخلق.
(9) لسان العرب 10/ 88 (ط. بيروت).
يعرف أحد النوعين من اللفظ إلّا بقيد يضم إليه، فيقال: خلق حسن، وفي ضده خلق قبيح، فإذا أطلق عن التقييد انصرف إلى الخلق الحسن «1».
وقال الفيروزابادي: اعلم أن الدّين كله خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وهو يقوم على أربعة أركان: الصبر والعفة والشجاعة والعدل، وذكر أن كل واحد من هذه الأربعة يؤدي إلى غيره من المكارم ويحمل عليه، فالصبر (مثلا) يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وإماطة الأذى والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة .. وقال أيضا: والتوسط منشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة «2».
الأخلاق اصطلاحا:
لكي نوضح مفهوم الأخلاق الإسلامية، لابد من التعرّف أولا على المفهوم الاصطلاحي للفظي الخلق والأخلاق كما فهمه العلماء المسلمون، وسنحاول الكشف عن ذلك في الفقرات التالية:
يذهب الجاحظ (ت: 255 هـ) إلى «أن الخلق هو حال النفس، بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعضهم لا يكون إلّا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء قد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمل، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل وغير ذلك من الأخلاق المحمودة» «3».
وكثير من الناس يوجد فيهم ذلك، فمنهم من يصير إليه بالرياضة ومنهم من يبقى على عادته، ويجري على سيرته.
ويعرّف ابن مسكويه (ت: 421 هـ) الأخلاق بأنها «4» «حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، أو كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكا مفرطا من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادا بالعادة والتدرّب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر أولا فأولا حتى يصير ملكة وخلقا».
أما الماوردي (ت: 450 هـ) فقال: الأخلاق «غرائز كامنة، تظهر بالاختيار، وتقهر بالاضطرار» «5».
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور 19/ 171- 172.
(2) بصائر ذوي التمييز 2/ 568.
(3) الجاحظ: تهذيب الأخلاق، دار الصحابة للتراث، ط 1، 1410 هـ- 1989 م، ص 12.
(4) ابن مسكويه: تهذيب الأخلاق لابن مسكويه في التربية، دار الكتب العربية، بيروت، ط 2، 1401 هـ- 1981 م، ص 4، 5.
(5) أبو الحسن البصري الماوردي: تسهيل النظر وتعجيل الظفر (تحقيق د. محيي هلال السرحان)، بيروت، 1983 م، ص 5.
وقال الجرجاني: «الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عنها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سمّيت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه» «1».
مفهوم الأخلاق عند ابن تيمية:
ومفهوم الأخلاق عند ابن تيمية مرتبط بمفهوم الإيمان، وما ينبثق عنه حيث إنه يقوم على عدة عناصر هي:
1- الإيمان باللّه وحده خالقا، ورازقا بيده الملك (توحيد الربوبية).
2- معرفة اللّه سبحانه وتعالى، معرفة تقوم على أنه وحده- سبحانه- المستحق للعبادة (توحيد الألوهية).
3- حبّ اللّه سبحانه وتعالى حبّا يستولي على مشاعر الإنسان، بحيث لا يكون ثمة محبوب مراد سواه سبحانه.
4- وهذا الحب، يسلتزم أن يتجه الإنسان المسلم نحو هدف واحد هو تحقيق رضا اللّه سبحانه، والالتزام بتحقيق هذا الرضا في كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة.
5- وهذا الاتجاه يستلزم من الإنسان سموّا عن الأنانية وعن الأهواء، وعن المآرب الدّنيا، الأمر الذي يتيح له تحقيق الرؤية الموضوعية والمباشرة لحقائق الأشياء، أو الاقتراب منها، وهذه شروط جوهرية في الحكم الخلقي.
6- وعندما تتحقق الرؤية المباشرة والموضوعية للأشياء والحقائق، يكون السلوك والعمل خلقا من الدرجة الأولى.
7- وعندما يكون العمل خلقا من الدرجة الأولى، نكون ماضين في طريق تحقيق، أو بلوغ الكمال الإنساني «2».
وهذا المنهج الذي سلكه ابن تيمية في تحديد مفهوم الأخلاق الإسلامية يعتبر جديدا، كما اتضح ذلك من دراسة «النظرية الخلقية عند ابن تيمية»،.
إن ابن تيمية كان أوفى، وأكمل، وأكثر نضجا ممن سبقه من علماء المسلمين أو غيرهم في هذا المضمار، وذلك لأن التصور النظري للأخلاق لدى هؤلاء العلماء والفلاسفة جميعا، فيه من الثغرات وعليه من المآخذ ما يجعل من هذا التصور فكرة ناقصة، بل عاجزة عن تحقيق الكمال الإنساني، وفي التصور الإسلامي للأخلاق لدى ابن تيمية نرى الارتباط الوثيق بين مفهوم الأخلاق، ومفهوم الإيمان الذي حدّده الإسلام، وما ينبثق عنه من نظام في العبادة، يكمن في التصور الخلقي الصحيح، ففي الإيمان وطرائقه، وآفاقه تستطيع النفس الإنسانية أن تجد
__________
(1) التعريفات للجرجاني، ص 104.
(2) محمد عبد اللّه عفيفي، النظرية الخلقية عند ابن تيمية، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، ط 1، 1408 هـ- 1988 م، ص 58- 59.
حاجتها المادية والروحية معا، وليس ثمة طريق يبلغ بالإنسان إلى كماله المنشود، وصلاحه المرجو، وبالتالي سعادته المأمولة، غير طريق الإيمان.
ابن القيم ومفهوم الأخلاق:
لم يضع ابن القيم تحديدا أو تعريفا حدّيّا للأخلاق وإنما عرّفها بالمثال، وقسمها إلى قسمين هما:
الأول: الأخلاق المذمومة.
الثاني: الأخلاق الفاضلة.
وأرجع كلا القسمين إلى أصوله فقال: أصل الأخلاق المذمومة كلها الكبر والمهانة والدناءة، وأصل الأخلاق المحمودة كلها الخشوع وعلو الهمة «1»، ثم أشار- رحمه اللّه تعالى- إلى أن للأخلاق حدودا «2» متى جاوزتها صارت عدوانا، ومتى قصرت عنها كانت نقصا ومهانة.
وعلى سبيل المثال فللشجاعة حد إذا جاوزته صارت تهورا، ومتى نقصت عنه صارت جبنا وخورا.
وقد اقتفى ابن القيم أثر شيخه ابن تيمية في الربط بين الإيمان والأخلاق وأشار إلى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد جمع بين تقوى اللّه وحسن الخلق، وفسّر ذلك بقوله «لأنّ تقوى اللّه تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى اللّه توجب له محبة اللّه، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته» «3».
تعريفات الأخلاق عند المحدثين:
تعرف الأخلاق عند المحدثين بأنها «تصور وتقييم ما ينبغي أن يكون عليه السلوك متمشية في ذلك مع مثل أعلى أو مبدأ أساسي تخضع له التصرفات الإنسانية ويكون مؤازرا للجانب الخيّر في الطبيعة البشرية» «4».
ويرى عبد الودود مكروم أن الأخلاق هي «مجموعة القواعد السلوكية التي تحدد السلوك الإنساني وتنظمه، وينبغي أن يحتذيها الإنسان فكرا وسلوكا في مواجهة المشكلات الاجتماعية والمواقف الخلقية المختلفة، والتي تبرز المغزى الاجتماعي لسلوكه بما يتفق وطبيعة الآداب والقيم الإجتماعية السائدة» «5».
ويذهب عبد الرحمن الميداني: إلى أن الخلق «صفة مستقرة في النفس فطرية أو مكتسبة ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة»، «فالخلق منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، والإسلام يدعو إلى محمود الأخلاق، وينهى
__________
(1) ابن قيم الجوزية، الفوائد، ص 197، ومعنى التعريف بالمثال أنه أشار إلى نوعي الأخلاق المحمودة والمذمومة، وكأنه قال: الأخلاق المحمودة ما كان مثل الخشوع، والأخلاق المذمومة ما كان مثل الكبر.
(2) المرجع السابق نفسه، ص 192- 193.
(3) المرجع السابق نفسه، ص 74- 75.
(4) حسن الشرقاوي: نحو الثقافة الإسلامية، ج 1، القاهرة، دار المعارف، 1979 م، ص 238.
(5) عبد الودود مكروم: «دراسة لبعض المشكلات التي تعوق الوظيفة الخلقية للمدرسة الثانوية» رسالة ما جستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة المنصورة، 1983 م، ص 22.
عن مذمومها».
ويفسر رؤيته وتعريفه بقوله: «وتستطيع أن تقيس مستوى الخلق النفسي عن طريق قياس آثاره في سلوك الإنسان: فالصفة الخلقية المستقرة في النفس إذا كانت حميدة كانت آثارها حميدة، وإذا كانت ذميمة كانت آثارها ذميمة، وعلى قدر قيمة الخلق في النفس تكون- بحسب العادة- آثاره في السلوك، إلّا أن توجد أسباب معوقة أو صوارف صادرة عن ظهور آثار الخلق في السلوك».
ويفرّق بين الصفات الخلقية والغرائز، فيقول: «وليست كل الصفات المستقرة في النفس من قبيل الأخلاق، بل منها غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق، ولكن الذي يفصل الأخلاق ويميزها عن جنس هذه الصفات كون آثارها في السلوك قابلة للحمد أو للذم، فبذلك يتميّز الخلق عن الغريزة ذات المطالب المكافئة لحاجات الإنسان الفطرية».
ويقول: «إن الغريزة المعتدلة ذات آثار في السلوك، إلّا أن هذه الآثار ليست مما يحمد الإنسان أو يذم في باب السلوك الأخلاقي، ولكن الشره الزائد عن حاجات الغريزة العضوية أمر مذموم، لأنه أثر لخلق في النفس مذموم، هو الطمع المفرط، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود هو القناعة. وهكذا سائر الغرائز والدوافع النفسية التي لا تدخل في باب الأخلاق، إنما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورا طبيعية ليست مما تحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم» «1».
نخلص مما سبق إلى عدة أمور:
1- أن مبحث الأخلاق من المباحث العلمية الهامة والعظيمة التي اهتم بها العلماء المسلمون على اختلاف تخصصاتهم العلمية وما يزال هذا البحث من أهم المباحث على المستوى الفكري الإسلامي وغير الإسلامي مع اختلاف في الفهم.
2- أن فهم الخلق بمقتضى اللغة، والتحديدات التي اصطلح عليها العلماء لا يخرج عن المعاني التالية:
- السجية أي الطبيعة المتمكنة في النفس سواء كانت حسنة أو قبيحة.
- العادة والطبيعة، والدين والمروءة.
- ملكة تصدر الأفعال بها عن النفس بسهولة من غير تفكير ولا روية وتكلف.
- صفة مستقرة في النفس ذات آثار في سلوك الفرد والمجتمع قد تكون محمودة أو مذمومة.
3- أن الأخلاق تعكس مجموعة من التصورات الأساسية التي يعتنقها الناس، ويصوغون حولها
__________
(1) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: الأخلاق الإسلامية وأسسها، الطبعة الأولى، دمشق، دار القلم، 1399 هـ- 1979 م، ج 1، ص 7- 8.
منظومات أخلاقية، نابعة من نفس التصورات تشكل الممارسات الخلقية.
4- أن الأخلاق تعتمد على:
- النظرة الإنسانية بإمكانياتها، وهو ما يسمّى عند البعض بالنور الفطري.
- الوحي السماوي ومحدداته الخلقية، وهو هنا الإسلام (قرآنا وسنة). وباجتماع الأمرين ينتج الخلق الإسلامي الرفيع، ذلك أن الناس محتاجون على وجه التحديد إلى قاعدة صالحة للتطبيق على نظرته. ولهداية ضمائرهم، ولا أحد يعرف جوهر النفس، وشريعة سعادتها وكمالها، مع الصلاحية الكاملة، والبصيرة النافذة، غير خالق وجودها ذاته: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (الملك/ 14) «1».
5- أن الأخلاق الإسلامية التزام بما ورد في القرآن والسنة من إلزامات وتوجيهات إلهية تقتضي رفعة الإنسان والسمو به إلى آفاق علوية، وتحقيق إنسانية الإنسان بما هو على فطرته.
6- ويستلزم الالتزام الخلقي من الإنسان:
- معرفة فطرية بالمبادىء الخلقية الأساسية، والتصورات المنبثقة عنها.
- المعرفة العملية للأحكام الخلقية، والأدوار والمهارات اللازمة للحياة في المجتمع.
- الوعي الخلقي ليفكر الإنسان ويحكم بشكل خلقي ويتصرف طبقا لهذا الحكم.
- الخبرة الموجبة للالتزام بالأحكام الأخلاقية التي تسهل السلوك الخلقي وترغّب فيه.
وبهذه الأمور الأربعة يمكن أن يشكل خلق الإنسان تشكيلا جيدا.
7- أن الأخلاق لا يمكن أن تكون نتاج عقل، فالعقل يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، ولكنه لا يستطيع أن يصدر حكما قيميّا عند ما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي، ذلك أن التحليل العقلي للأخلاق يختزلها، إلى طبيعة، وأنانية وتضخيم للذات، ويكتشف العقل في الطبيعة مبدأ السببية العامة الكلية والقدرة، وفي الإنسان الغرائز، التي تؤكد عبودية الإنسان وانعدام حريّته. إن محاولة إقامة الأخلاق على أساس عقلاني لا يستطيع أن يتحرك أبعد مما يسمّى بالأخلاق الاجتماعية أو قواعد السلوك اللازمة
للمحافظة على جماعة معيّنة، وهي في واقع الأمر نوع من النظام الاجتماعي «2».
ويؤكد هذه الفكرة الشيخ محمد عبد اللّه دراز، بقوله: «فإذا ما قيل لنا إننا نحن الذين نشرع لأنفسنا، بوصفنا
__________
(1) محمد عبد اللّه دراز: دستور الأخلاق في القرآن الكريم، ترجمة عبد الصبور شاهين، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1393 هـ- 1973 م، ص 33- 34.
(2) علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، ط 1، الكويت، مجلة النور، مؤسسة بافاريا للنشر والإعلان والخدمات، 1414 هـ- 1994 م، ص 186.
أعضاء في عالم عقلي، وجب علينا أن نتفق على ذلك الاستقلال الذي خص به العقل».
ماذا تعني في الواقع هذه المقولة: «العقل يمنح نفسه قانونه»؟ هل هو مبدع العقل والقانون، أو أنه يتلقاه معدّا، على أنه جزء من كيانه كما يفرضه على الإرادة.
ذلك لأنه إذا كان العقل مبدع القانون فإنه سوف يصبح السيد المطلق فيبقي عليه أو يبطله تبعا لمشيئته، فإذا لم يستطع ذلك فلأنه قانون سبق في وضعه وجود العقل، وأن صانع العقل قد طبعه فيه، كفكرة فطرية، لا يمكن الفكاك منها «1».
أما علم الأخلاق فله تعريفات عديدة من أهمها:
1- علم الأخلاق هو جملة القواعد والأسس التي يعرف بواسطتها الإنسان معيار الخير في سلوك ما «أو مدى الفساد والشر المتمثل في سلوك آخر. والأخلاق كعلم معياري يكون وفق هذا المفهوم علما خاصّا بالإنسان دون باقي المخلوقات وهو يشكل منهاجه السلوكي القائم على مجموعة من المبادىء والقيم التي تحكم قناعات الفرد» «2».
2- علم الأخلاق هو علم تحديد معايير وقواعد السلوك أو هي علم التعرف على الحقوق والواجبات» «3».
أما وجهة نظر القدماء فيمثلها التعريف التالي: الأخلاق «علم يعرف به حال النفس من حيث ماهيتها وطبيعتها وعلة وجودها وفائدتها وما هي وظيفتها التي تؤديها وما الفائدة من وجودها، ويبحث عن سجاياها وأميالها وما ينقلها بسبب التعاليم عن الحالة الفطرية، وذكر أن هذا أول علم تأسس منذ بدء الخليقة» «4».
الأخلاق الإسلامية:
إن الأخلاق الإسلامية هي السلوك من أجل الحياة الخيرة وطريقة للتعامل الإنساني، حيث يكون السلوك بمقتضاها له مضمون إنساني ويستهدف غايات خيرة.
وقد عرف بعض الباحثين الأخلاق في نظر الإسلام بأنها عبارة عن «مجموعة المبادىء والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني التي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان وتحديد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه» «5».
ويتضح من هذا التعريف أن الأخلاق في نظر الإسلام هي جمع شامل في منظور متكامل بين مصدرها
__________
(1) محمد عبد اللّه دراز، دستور الأخلاق في القرآن، ص 35.
(2) أسعد الحمراني، الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة، ص 15.
(3) نقل أسعد الحمراني في المرجع السابق هذا التعريف عن معجم لاروس الصادر في باريس، 1931 م.
(4) تهذيب الأخلاق لابن مسكويه، ص (ز).
(5) مقداد يالجين: التربية الأخلاقية الإسلامية، رسالة دكتوراه منشورة، ط 1، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1977، ص 75.
وطبيعتها ومغزاها الاجتماعي وغايتها.
وللنظام الأخلاقي في الإسلام طابعان مميزان «1»:
الأول: طابع إلهي من حيث أنه مراد للّه، إذ أنه يجب أن يتبع الإنسان في هذه الحياة رغبة اللّه في خلقه، ولذلك جاء الوحي بصورة هذا النظام.
الثاني: طابع إنساني من حيث إن هذا النظام عام في بعض نواحيه يتضمن المبادىء العامة، وللإنسان دوره في تحديد واجباته الخاصة والتعرف على طبيعة مظاهر السلوك الإنساني المعبرة عن القيم. لذا تعد الأخلاق روح الإسلام، حيث يقول الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم «البر حسن الخلق» «2».
أصالة الفكر الأخلاقي عند المسلمين:
من الناس من يظن- وبعض الظن إثم- أنه لا يوجد فكر أخلاقي عند المسلمين، ومنهم من يجعل الفكر الفلسفي شاملا للفكر الأخلاقي في التراث الإسلامي، ومنهم من ينظر إلى الفكر الصوفي على أنه الفكر الأخلاقي المعتمد للمسلمين.
إن هذه الأطروحات المختلفة لا تلبث أن تتهاوى أمام حقيقة ناصعة البياض، وهي أن الفكر الأخلاقي قد وجدت أسبابه ودواعيه منذ تلك اللحظة التي أمر فيها الرسول الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم ب «مكارم الأخلاق» «3»، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه قد تقرر عند العلماء أنه لا يوجد فكر ديني دون أن يكون هناك فكر أخلاقي انطلاقا من أن الفكر الديني هو الذي يحدد الإطار العام لأفكار معتنقيه، ويجيب عن التساؤلات الإنسانية الكبرى مثل خلق الإنسان والتدبر في نعم اللّه وآلائه، أما الفكر الخلقي فإنه يحدد أنماط السلوك التي يمارسها الإنسان في هذه الحياة، ومن المعروف أن الإسلام عقيدة وشريعة؛ فالعقيدة تتضمن الفكر والشريعة تتضمن أنماط السلوك تجاه المولى- عز وجل- كما في العبادات، أو تجاه النفس كما في العفة والطهر ونحوها، أو تجاه الآخرين كما في البر والصدقة والإيثار ونحو ذلك.
لقد وجد الفكر الأخلاقي عند المسلمين طريقة للتأثير على الفكر الأخلاقي على المستوى العالمي بوجه عام والفكر الغربي بوجه خاص، ولا يزال هذا الفكر مسيطرا على سلوك المسلمين في الحاضر، ويعمل على صياغة حياتهم في المستقبل، ولم يكن الأمر كذلك إلا لكون هذا الفكر الإسلامي فكرا كونيا يعالج قضايا الحياة الإنسانية من منظور يسمو على النواحي القومية والعرقية والإقليمية، وما ذلك إلّا «لأن الإسلام الذي ينبعث منه هذا الفكر هو دين كوني وشمولي من ناحية، ولأن ممارسة هذا التفكير في ظل الإسلام، وانطلاقا من القيم والثوابت
__________
(1) مقداد يالجين: التربية الأخلاقية الإسلامية، رسالة دكتوراه منشورة، ط 1، القاهرة، مكتبة الخانجي، 1977، ص 75، 76.
(2) صحيح مسلم (16/ 110).
(3) انظر صفة حسن الخلق، حديث رقم (8).