قال:جمعهم فجعلهم أرواحا ثمّ صوّرهم فاستنطقهم فتكلّموا، ثمّ أخذ عليهم العهد والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربّكم.
قال: فإنّي أشهد عليكم السّماوات السّبع، والأرضين السّبع، وأشهد عليكم أباكم آدم- عليه السّلام- أن تقولوا يوم القيامة لم
نعلم بهذا، اعلموا أنّه لا إله غيري، ولا ربّ غيري،فلا تشركوا بي شيئا، إنّي سأرسل إليكم رسلي، يذكّرونكم عهدي وميثاقي،
وأنزل عليكم كتبي. قالوا:
شهدنا بأنّك ربّنا وإلهنا، لا ربّ لنا غيرك، فأقرّوا بذلك ورفع عليهم آدم ينظر إليهم، فرأى الغنيّ والفقير، وحسن الصّورة،
ودون ذلك، فقال: ربّ لولا سوّيت بين عبادك، قال: إنّي أحببت أن أشكر. ورأى الأنبياء فيهم مثل السّرج عليه النّور، خصّوا
بميثاق آخر في الرّسالة والنّبوّة، وهو قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ ...
(قيل: «إذا أردت أن تعرف وفاء الرّجل ودوام عهده فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوّقه إلى إخوانه، وكثرة بكائه على ما
مضى من زمانه»)* المستطرف (291)
قال الشّاعر:
تعجيل وعد المرء أكرومة ... تنشر عنه أطيب الذّكر
والحرّ لا يمطل معروفه ... ولا يليق المطل بالحرّ
وقال آخر:
ولقد وعدت وأنت أكرم واعد ... لا خير في وعد بغير تمام
أنعم عليّ بما وعدت تكرّما ... فالمطل يذهب بهجة الإنعام
وقال آخر:
وميعاد الكريم عليه دين ... فلا تزد الكريم على السّلام
يذكّره سلامك ما عليه ... ويغنيك السّلام عن الكلام
وأنشدوا:
إذا قلت في شيء «نعم» فأتمّه ... فإنّ «نعم» دين على الحرّ واجب
وإلّا فقل «لا» تسترح وترح بها ... لئلّا يقول النّاس إنّك كاذب
وقال آخر:
لا كلّف اللّه نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلّا بما تجد
فلا تعد عدة إلّا وفيت بها ... واحذر خلاف مقال للّذي تعد
وقال آخر:
اشدد يديك بمن بلوت وفاء ... إنّ الوفاء من الرّجال عزيز
من قصص الوفاء
وأمّا الوفاء بالعهد ورعاية الذّمم: فقد نقل فيه من عجائب الوقائع، وغرائب البدائع، ما يطرب السّماع، ويشنّف المسامع
قصة وفاء الطائي وكرم شريك
كقضيّة الطّائيّ وشريك، نديمي النّعمان بن المنذر. وتلخيص معناها أنّ النّعمان كان قد جعل له يومين: يوم بؤس، من
صادفه فيه قتله وأرداه، ويوم نعيم، من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه، وكان هذا الطّائيّ قد رماه حادث دهره بسهام فاقته
وفقره، فأخرجته الفاقة من محلّ استقراره ليرتاد شيئا لصبيته وصغاره، فبينما هو كذلك إذ صادفه النّعمان في يوم بؤسه،
فلمّا رآه الطّائيّ علم أنّه مقتول وأنّ دمه مطلول. فقال: حيّا اللّه الملك إنّ لي صبية صغارا، وأهلا جياعا، وقد أرقت ماء
وجهي في حصول شيء من البلغة لهم، وقد أقدمني سوء الحظّ على الملك في هذا اليوم العبوس، وقد قربت من مقرّ الصّبية
والأهل وهم على شفا تلف من الطّوى، ولن يتفاوت الحال في قتلي بين أوّل النّهار وآخره، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن
أوصّل إليهم هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحيّ، لئلّا يهلكوا ضياعا ثمّ أعود إلى الملك وأسلّم نفسي لنفاذ أمره.
فلمّا سمع النّعمان صورة مقاله، وفهم حقيقة حاله، ورأى تلهّفه على ضياع أطفاله، رقّ له ورثى لحاله، غير أنّه قال له: لا آذن
لك حتّى يضمنك رجل معنا، فإن لم ترجع قتلناه، وكان شريك بن عديّ بن شرحبيل نديم النّعمان معه فالتفت الطّائيّ إلى
شريك وقال له:
يا شريك بن عديّ ... ما من الموت انهزام
من لأطفال ضعاف ... عدموا طعم الطّعام
بين جوع وانتظار ... وافتقار وسقام
يا أخا كلّ كريم ... أنت من قوم كرام
يا أخا النّعمان جد لي ... بضمان والتزام
ولك اللّه بأنّي ... راجع قبل الظّلام
فقال شريك بن عديّ: أصلح اللّه الملك، عليّ ضمانه، فمرّ الطّائيّ مسرعا، وصار النّعمان يقول لشريك: إنّ صدر النّهار قد
ولّى، ولم يرجع، وشريك يقول: ليس للملك عليّ سبيل حتّى يأتي المساء، فلمّا قرب المساء، قال النّعمان لشريك: قد جاء
وقتك قم فتأهّب للقتل، فقال شريك: هذا شخص قد لاح مقبلا، وأرجو أن يكون الطّائيّ، فإن لم يكن فأمر الملك ممتثل،
قال: فبينما هم كذلك وإذ بالطّائيّ قد اشتدّ في عدوه وسيره مسرعا، حتّى وصل، فقال: خشيت أن ينقضي النّهار قبل وصولي،
ثمّ وقف قائما، وقال: أيّها الملك، مر بأمرك فأطرق النّعمان ثمّ رفع رأسه وقال:
واللّه ما رأيت أعجب منكما، أمّا أنت يا طائيّ فما تركت لأحد في الوفاء مقاما يقوم فيه، ولا ذكرا يفتخر به، وأمّا أنت يا
شريك فما تركت لكريم سماحة يذكر بها في الكرماء، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة، ألا وإنّي قد رفعت يوم بؤسي عن النّاس،
ونقضت عادتي، كرامة لوفاء الطّائيّ وكرم شريك. فقال الطّائيّ:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ... فعددت قولهم من الإضلال
إنّي امرؤ منّي الوفاء سجية ... وفعال كلّ مهذّب مفضال
فقال له النّعمان: ما حملك على الوفاء وفيه إتلاف نفسك، فقال: ديني، فمن لا وفاء فيه لا دين له، فأحسن إليه النّعمان
ووصله بما أغناه وأعاده مكرّما إلى أهله وأناله ما تمنّاه)* المستطرف (1/ 287- 288)قصة حديث السّموأل بن عاديا:
(وممّا أسفرت عنه وجوه الأوراق، وأخبرت به الثّقات في الآفاق، وظهرت روايته بالشّام والعراق، وضرب به الأمثال في الوفاء بالاتّفاق، حديث السّموأل بن عاديا، وتلخيص معناه أنّ امرأ القيس الكنديّ، لما أراد المضيّ إلى قيصر ملك الرّوم، أودع عند السّموأل دروعا وسلاحا، وأمتعة تساوي من المال جملة كثيرة. فلمّا مات امرؤ القيس أرسل ملك كندة يطلب الدّروع والأسلحة المودعة عند السّموأل. فقال السّموأل لا أدفعها إلّا لمستحقّها. وأبى أن يدفع إليه منها شيئا، فعاوده فأبى، وقال لا أغدر بذمّتي، ولا أخون أمانتي، ولا أترك الوفاء الواجب عليّ. فقصده ذلك الملك من كندة بعسكره فدخل السّموأل في حصنه، وامتنع به. فحاصره ذلك الملك، وكان ولد السّموأل خارج الحصن فظفر به ذلك الملك فأخذه أسيرا ثمّ طاف حول الحصن وصاح بالسّموأل. فأشرف عليه من أعلى الحصن. فلمّا رآه قال له: إنّ ولدك قد أسرته، وها هو معي، فإن سلّمت إليّ الدروع والسّلاح الّتي لامرىء القيس عندك، رحلت عنك وسلّمت إليك ولدك، وإن امتنعت من ذلك ذبحت ولدك وأنت تنظر، فاختر أيّهما شئت. فقال له السّموأل: ما كنت لأخفر ذمامي، وأبطل وفائي، فاصنع ما شئت. فذبح ولده وهو ينظر. ثمّ لمّا عجز عن الحصن رجع خائبا، واحتسب السّموأل ذبح ولده وصبر، محافظة على وفائه. فلمّا جاء الموسم وحضر ورثة امرىء القيس سلّم إليهم الدّروع والسّلاح. ورأى حفظ ذمامه ورعاية وفائه أحبّ إليه من حياة ولده وبقائه. فصارت الأمثال في الوفاء تضرب بالسّموأل، وإذا مدحوا أهل الوفاء في الأنام ذكر السّموأل في الأوّل. وكم أعلى الوفاء رتبة من اعتقله بيديه، وأغلى قيمة من جعله نصب عينيه، واستنطق الأفواه لفاعله بالثّناء عليه، واستطلق الأيدي المقبوضة عنه بالإحسان إليه»)* المستطرف (1/ 289)
من فوائد (الوفاء)(1) من أوفى بعهد اللّه من توحيده وإخلاص العبادة له، أوفى اللّه بعهده من توفيقه إلى الطّاعات وأسباب العبادات.
(2) الّذين يوفون بعهد اللّه، هم أولو الألباب وهم الّذين باعوا أنفسهم وأموالهم للّه فوعدهم أنّ لهم الجنّة ومن أوفى بعهده من اللّه؟
(3) مدح اللّه الموفين بعهودهم كثيرا في القرآن.
(4) الوفاء صفة أساسيّة في بنية المجتمع الإسلاميّ، حيث تشمل سائر المعاملات، إذ كلّ المعاملات والعلاقات الاجتماعيّة والوعود والعهود تتوقّف على الوفاء، فإذا انعدم الوفاء انعدمت الثّقة، وساء التّعامل وساد التّنافر.
(5) من أهمّ الوفاء، الوفاء بالعهود من بيعة وبيع ودين ونذر وشروط تتعلّق بالمعاملات الماليّة والاجتماعيّة
(6) المسلم المتمسّك بالوفاء في كلّ أحواله يجد في نفسه سعادة عظيمة عندما يوفّي حقوق اللّه- عزّ وجلّ كاملة وحقوق إخوانه المسلمين. ولا ينسى حقّ أهله ونفسه عليه فيعطي كلّ ذي حقّ حقّه