حططنا عنك خطاياك، وغسلناك من آثار الذنوب. فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقي طاهر من كل مكان وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور ن هنيئاً لك هذا الغفران، وكوبي لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح. (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)
أثقل هذا الوزر كاهلك، واضني ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل ن وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، فاسعد بهذه البشرى، وتقبل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضيل.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)
لا اذكر إلا تذكر معي، يقرن بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ ، فهل تريد شرفاً فوق هذا؟ يذكرك كل مصل، وكل مسبح، وكل حاج ، وكل خطيب، فهل تطلب مجداً أعلي من هذا؟ أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوه باسمك في الصحف الأولي والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويتلي في الحواضر والبوادي. ويمدح في المحافل، ويكرر في المجامع. (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فصار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك. (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فصرت حديث الركب، وقصة السمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة. (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فما نسي مع الأيام، وما محي مع الأعوام، وما شطب من قائمة الخلود، وما نسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل العظماء ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتباعك، ومن حفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك. ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومحيت آثار السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلد مجدك، فليس في البشر اشرح منك صدراً، ولا أرفع منك ذكراً، ولا أعظم منك قدراً، ولا أحسن منك آثراً، ولا أجمل منك سيراً. إذا تشهد متشهد ذكرك معنا، وإذا تهجد سماك معنا، وإذا خطب خطيب نوه بك معنا، فاحمد ربك لأننا رفعنا لك ذكرك.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)
إذا ضاقت عليك السبل ، وبارت الحيل، وتقطعت الحبال، وضاق الحال فأعلم ان الفرج قريب، وأن اليسر حاصل. لا تحزن فإن بعد الفقر غني، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدة فرجاً. سوف يصلك اليسر أنت وأتباعك فترزقون وتنصرون. إنها سنة ثابتة وقاعدة مضطردة ان مع كل عسر يسراًن بعد الليل فجر صادق، وخلف جبل المشقة سهل الراحة، وراء صحراء الضيق روضة خضراء من السعة، إذا اشتدت الحبل انقطع، وإذا اكتمل الخطب ارتفع، سوف يصل الغائب ويشفي المريض، ويعافي المبتلي، ويفك المحبوس، ويغتني الفقير، ويشبع الجائع، ويروى الظمآن، ويسر المهموم ، وسيجعل الله بعد عسر يسراً. وهذه السورة نزلت عليه صلي الله عليه وسلم وهو في حال من الضيق وتكالب الأعداء، واجتماع الخصوم، وإعراض الناس، وقلة الناصر وتعاظم المكر، وكثرة الكيد، فكان لابد له من عزاء وسلوة وتطمين وترويح، فنزلت هذه الكلمات المباركات له ولأتباعه إلى يوم القيامة صادقاً ن وبشري طيبة، وجائزة متقلبة: اشــــتـــدي أزمــــة تنفـــرجي قـــــد آذن ليلك بالبلج
(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)
إذا انتهيت من أعمالك الدنيوية وأشغالك الشخصية، فانصب لنا بالعبادة وتوجه لنا بالطاعة، واكثر من ذكرنا ودعائنا. إذا فرغت من الناس وقضاياهم وأسئلتهم فقم في محراب عظمتنا، وانطرح علي بابنا، واقرب منا، ومرغ جبينك لنا، لتلقي الفوز والفلاح والأمن والنجاة. إذا فرغت من الأهل والولد والقريب والصاحب فجعل لك وقتاً معنا ، ارفع فيه سؤالك ، اعرض فيه حاجتك، أكثر فيه دعاءك، ادعنا وسبحنا واطلبنا واستغفرنا واشكرنا واذكرنا. إذا فرغت من الأحكام والقضاء والموعظة والفتيا والتعليم والإرشاد والجهاد والنصيحة فتعال لتزداد من قوتنا قوة، ومن مددنا عوناً، ومن رزقنا زاداً، ومن فتحنا بصيرة وذخيرة. نحن أولي بك منك، وأحق من غيرنا، ويا له من توجيه له ولأتباعه عليه الصلاة والسلام في صرف الفراغ في العبودية، وملأ هذا الزمن بذكره وشكره جل في علاه ليحصل المقصود من الرضا والسكينة والفرج والعاقبة الحسنة، وصلاح الحال والمال، وعمارة الدنيا والآخرة.(وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)
إلى ربك وحده فارغب ن ولا ترغب من غيره شيئاً، وإليه وحده فاتجه وعليه فتوكل، وفيه فأمل ، فإن الرغبة والرهبة لا تكون إلا إليه؛ لأنه صاحب الثواب لمن أطاعهن والعقاب لمن عصاه. والرغائب الجليلة لا يملكها إلا الله، فعنده مفاتح الخزائن، ومقاليد الأمور، فهو أهل ان يدعي وان يسأل وأن يؤمل وأن يقصد جل في علاه: إليك وإلا لا تشـــد الركـــائب ومنك وإلا فـــالمؤمل خــــائب وفيـــك وإلا فــالغرام مــضيع وعنك وإلا فـــالمحدث كــــاذب وقد تنزلت هذه الكلمات على رسولنا صلي الله عليه وسلم في فترات عصيبة، وفي لحظات حاسمة عاشها صلي الله عليه وسلم وتجرع غصصها وحسا مرراتها. (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)
لقد فتحنا لك يا محمد فتحاً بيناً ظاهراً مباركاً، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبينت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بدعوتك القلوب الغلف والعيون العمي، والآذان الصم، واسمعنا رسالتك الثقلينز فتحنا لك فتدفق العلم النافع من لسانك ،وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسح الجود من يمينك. وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها. وفتحنا لك باب العلم وأنت الأمي الذي ما قرا وما كتب فصار العلماء ينهلون من بحار علمك؛ ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دعوتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبر وإحسان ونصر وتوفيق. وفتحنا لك خيبر فسدت اليهود، وأهنت إخوان الخنازير والقرود، ورفعت لك البنود، وأطاعتك الجنود.وفتحنا لك مكة، فرفعت بها كلمة الحق، وبنيت بها صرح الهدى، وطهرتها من رجس الأوثان ، ونجاسة الأصنام، وعبث الأزلام.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) فلا تشرك معه في عبوديته أحداً، ولا تدعو من دونه إلهاً ، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحد قصدك له ومسألتك ودعائك. فإذا سألت فاسال الله . وإذا استعنت فأستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضر غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه. (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) هو أحق من شكر، وأعظم من ذكر، وأراف من ملك، وأجود من أعطي ، وأحلم من قدر، وأقوي من أخذ،وأجل من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا إله يدعي سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يعبد وأن يوحد وأن يخاف وأن يطاع وان يرهب وأن يخشي وأن يحب. (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) المتفرد بالجمال والكمال والجلال خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحدوه، وأنشأ البرية ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبه نال قربه، ومن خافه أمن عذاببه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدبه، ومن حاربه خذله،يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذل من كفر ، له الحكم وإليه ترجعون. (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )فأخلص له العبادة؛ لأنه لا يقبل الشرك، وفوض غليه الأمر؛ لأنه الكافي القوي ، واسأله فهو الغني،وخف عذابه لأنه شديد، وأحذر أخذه لأنه أليم، ولا تتعدي حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، وأطمع من فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن،وأدم ذكره لتنل محبته، والزم شكره لتحظي بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته. وحارب أعداءه ليخلصك بنصره. (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)
هذه أعظم قضية في العالم، واكبر مسألة في الدنيا، وهي مسألة أن تعلم وتقر وتعترف أنه لا إله إلا الله فلا تعبد غيره، ولا توحد سواه. إن الخلق خلقوا ليعلموا أن لا إله إلا الله، وأن الكتب نزلت لتثبت لا إله إلا الله ،وإن الرسل بعثت لتدعو إلي لا إله إلا الله، فقبل أن تعلم اعلم أنه لا إله الله، وقبل أن تدعو حقق لا إله إلا الله، وقبل أن تأمر وتنهي صحح لا إله إلا الله. إن بداية الطريق لمن أراد الحياة الطيبة والعيش السعيد والخاتمة الحسنة والخلود في الجنة لهي هذه الكلمة الرائدة الخالدة بكل ما تحتويه من معني أراده الله عز وجل يوم فرض على العباد تحقيقها. ولابد لهذه الكلمة من اعتقاد جازم لا يخالطه شك، وحب صادق لا يكدره سخط، وصدق في قولها لا يمازجه كذب، وعمل بمقتضاها لا يناقضه مخالفة، ودعوة إليها لا يصاحبها فتور، وسلامة من كل ما يضادها أو يعارضها من شرك أو رياء أو بدعة ليكون قائلها أسعد الناس بها في الدنيا والآخرة. لقد نزلت هذه الآية على الرسول النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم وهو أول داعية ليكون القدوة للناس، والأسود للبشر في معرفة سر هذه الرسالة الخاتمة، ومعرفة مقصدها ومرادها. إن موجزها تعريف الناس بكلمة لا إله إلا الله، وكل قول وعمل واعتقاد في الدين فإنه من هذه الكلمة انبثق، وإن هذه العبارة شعار فهي أصول الأصول، وبوابة الديانة، وطريق الفلاح، ولأن الله صاحب الكمال والجلال والجمال والعظمة فحقنا أن نوحده بلا إله إلا الله، ولأننا أهل الذنب والخطيئة والعيب والتقصير فعلينا بالاستغفار ؛ ولهذا قال بعدها: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)، إن الله هو الخالق الرزاق وهو حقيق بالألوهية والربوبية، وإن العبد مخلوق مرزوق مطعوم محتاج، فحقه أن يستغفره فقط من سيئاته وخطاياه.إن بين لا إله إلا الله واستغفر صلة، كما بين الرب القوي الغني الماجد الواحد الجواد، وبين العبد الضعيف الفقير المحتاج الفاني ، كل فضل وكل نعمة وكل عطية فمن الله، فواجب علينا أن نقر له بلا إله إلا الله، وكل خلل وزلل وعلل فمنا فحق علينا قول: استغفر الله. إن العبد بين نعمة وذنب؛ ولهذا جاء في الحديث: (( وأبوء بنعمتك على وابوء بذنبي)). فالنعمة من الله الذي لا إله إلا هو. والذنب من العبد منجاته في التوحيد والاستغفار.إن التوحيد حق الله لا ينازعه أحد فيه؛ لأنه واحد في ربوبيته واسمائه وصفاته وأفعاله، والاستغفار نجاة للعبد الذي غر شيطانه وخدعته نفسه وغلبه هواه واشغلته دنياه فوقع في المعصية. والآن لك أن تعرف سر الاقتران اللطيف بين التوحيد والاستغفار ، وهذا وارد في عدة مواطن في القرآن مثل: ) فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ) ومثل: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، وعند أبي يعلي في الحديث : (( أن الشيطان يقول: أهلكت العباد بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار. (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
تبدأ قصة النبوة بكلمة أقرأ يوم نزلت على رسولنا صلي الله عليه وسلم في الغار، ومن بداية اقرأ بدأنا، بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا، ومن تاريخ نزول اقرأ بدأت مسيرتنا المقدسة، وتغير بها وجه الأرض، وصفحة الأيام ، ومعالم الدنيا فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن المسلمين، وهي اللحظة الفاصلة بين الظلام والنور، والكفر والإيمان، والجهل والعلم، واختيار اقرأ من بين قاموس الألفاظ وديوان اللغة له سر عجيب ونبأ غريب، فلم يكن مكان اقرأ غيرها من الكلمات لا أكتب ولا ادع ولا تكلم ولا قل ولا اخطب، إنما اقرأ ، ويالها من كلمة جلية جميلة أصيلة. اقرأ يا محمد قبل أن تدعو، واطلب العلم قبل أن تعمل (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك) إن اقرأ منهج حياة ورسالة حية لكل حى تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة، وأن يطرد الجهل عن نفسه وأمته. وأين يقرأ ـ بأبي هو وأمي ـ وهو ما تعلم على شيخ ولا رأي كتالاً ولا حمل قلماً؟ يقرأ أولاً باسم ربه كلام ربه، فمصدره الأول الوحي يتلوه غضاً طرياً، ويقرأ في كتاب الكون المفتوح ليري أسطر الحكمة تخطها أقلام القدرة ، فيقرأ ي الشمس الساطع، والنجوم الامعة، والجدول والغدير والتل الرابية ، والحديقة والصحراء، والأرض والسماء: وكتـــــابي الفضــاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتـــاب وكلمة اقرأ تلك تدل على فضل العلم وعلو مكانته، وأنه أول منازل الشرف والرفعة، وطريق السيادة والمجد، وبوابة السعادة والنجاح. وكل سعادة وفلاح فسببها العلم؛ فرسالته صلي الله عليه وسلم علمية عملية؛ لأنه بعث بالعم النافع والعمل الصالح: (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث)). فاليهود عندهم علم بلا عمل، فغضب عليهم، والنصارى لديهم عمل بلا علم، فضلوا، فأمرنا بالاستعاذة من سبيل الطائفتين: ) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ). وكلمة اقرأ رسالة موحية لها دلالات وأبعاد واسرار، فهي إبقاء للهمة لتطلب الهدي من مظانه، وتغوص في فهم الحياة، وتبحث عن الحقيقة ، وتكتشف أسرار الكون، وتطالع الآيات البينات في الإنسان والحيوان والجماد، وتسافر مع البحث العميق والدراسة المتأنية والعمق المعرفي الذي يكشف عظمة الخالق وقدرة البارى وحكمة الصانع جل في علاه.
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )
أنتم الأمة الوسط، وأنتم وسط بين اليهود الذين قتلوا الأنبياء والنصارى الذين عبدوهم، إذ إنكم أطعتموهم واتبعتموهم، وأنتم وسط في الزمان، ما جئتم في أول الزمان فلا تجارب ولا تاريخ، وما جئتم في ذيل الدهر، بل سبقكم أمم وجاء بعدكم أجيال، فاعتبرتم بالسابقين ، وأفدتم اللاحقين. ووسط أنتم في المكان، فلستم في زوايا الأرض ولا في أطراف الدنيا، بل كنتم في قلب المعمورة، فدينكم شع من أم القرى لتوزعوا الهداية على الناس، وأنتم وسط في الديانة فلم تعبدوا كل شئ من حجر وشجر ومدر كما فعل المشركون، ولم ترفضوا العبودية جملة وتفصيلاً كما فعلت بعض الأمم، بل عبدتم الواحد القهار ، ووحدتم العزيز الغفار. ووسط أنتم في المعيشة ، فلم تفعلوا فعل اليهود في البذخ والإسراف والانهماك في اللذائذ وتصيد الشهوات، ولم تفعلوا فعل النصارى في الرهبانية والانقطاع والتبتل وعذاب النفس، بل أعطيتم الجسم حظه والروح حقها. ووسط أنتم في الفنون فلم تفعلوا ما فعل فارس، إذ كانت حياتهم هوايات وتسليات ، ولا فعل الروم إذ جردوا حياتهم من كل ممتع بهيج، بل لكم الجمال المباح والسحر الحلال من الأقوال والأفعال ، والنافع المفيد من مناهج الحياة. وأنتم وسط في الأخلاق ، فلم تفعلوا فعل الأمم العدوانية المتوحشة الذين بغوا وطغوا وفتكوا، ولم تنهجوا نهج من استسلم لخصمه وذل لعدوه وقال: (( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ))، بل عندكم صفح وحلم عمن يستحق، وتأديب وقصاص لمن يعتدي ، والكل له قدر. وأنتم وسط في باب العلم فلم تجعلوا العلم مقصوداً لذاته كما فعل اليونان، ولم تهملوه وتضيعوه فعل الأمم البليدة التي غلب عليها الغباء؛ بل جعلتم العلم وسيلة إلى كل فضيلة ، وطريقاً إلى صلاح الدنيا والآخرة والفلاح في الدارين. ووسط أنتم في العبادة فما أعرضتم عن النسك فعل الفجرة الجفاة، وما شققتم على نفوسكم وعذبتم أرواحكم فعل أهل الصوامع الغلاة؛ بل اقتصدتم في العبادة مع الحسن، واعتدلتم في النسك مع الجودة. ووسط أنتم في التفكير فما هممتم مع الخيال فعل الشعراء الذين هم في أودية الوهم هائمون ، وما جمدتم جمود الفلاسفة الذين قتلوا العواطف وعطلوا المشاعر حتى جفت نفوسهم وقست قلوبهم ، بل أنتم مع الحقيقة سائرون ، فجمعتم بين القوة والرحمة، والواقعية والجمال، والنص والمعني، فأنتم وسط بين طرفين ، وحسنة بين سيئتين ، ونجاة بين مهلكين ، وقد وفق الله أهل السنة والجماعة ما بين قدرية يقولون إن الأمر مستأنف ولم يسبق قضاء من الله والجبرية الذين قالوا لا مشيئة للعبد وهو مجبور على كل فعل يفعله من طاعة ومصية، فأهل السنة اثبتوا علم الله وقضاءه ومشيئته وأثبتوا للعبد مشيئة ، تحت مشيئة الله. وهم وسط في باب الوعد الوعيد بين الخوارج الذين كفروا بالكبيرة والمرجئة الذين قالوا لا تضر المعاصي مع الإيمان. فأهل السنة لم يكفروا أهل الكبائر وإنما فسوقهم وقالوا بنقص إيمانهم. وهم وسط في باب الأسماء والصفات بين من نفاها وشبه الله بخلقه أو مثلة بهم، فاثبتوا ما أثبته الله ورسوله من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . ووسط في باب حب أهل البيت بين النواصب الذين سبوهم والروافض الذين غلوا فيهم وسبوا الصحابة لأجلهم فأحبهم أهل السنة وتولوهم وأنزلوهم المنزلة اللائقة بهم. ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً)
يقول الجن لما سمعوا القرآن : إنا سمعنا قرآنا عجباً. عجيب!!حتى الجن يتعجبون من القرآن ، ومن الذي لا يعجب من القرآن؟! ومن هو الحي الناطق السميع البصير الذي لا يعجبه القرآن ويشجيه ويبكيه؟؟ ومن هو الذي له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد ولا يتأثر باقرآن؟! أما الإنس فقد عجبوا كل العجب وذهب بهم الإعجاب كل مذهب، وقال قائلهم: إن له حلاوة وعليه طلاوة، وأما الجن فهم يصيحون صيحة المعترف: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) فهو العجب كله، والحسن أجمعه، في آياته ،ففيها من التناسق والتناغم والروعة ما يفوق الوصف والعجب في سورة ، فلكل سورة مشهد وإيحاء ورسائل غير الأخرى، وعجيب في عرضه الذي يقتحم أسوار النفس، ويزلزل أماق القلب، ويحتل مناطق التأثير، ويجتاح مستعمرات الضمير. عجب لهذا القرآن ، نعيده نكرره نشرحه نتدارسه نحفظه ثم يبقي غضاً راقياً مشرقاً جديداً، عجباً لهذا كأنه يسوقنا إلى الآخرة بجحافل من رعب، وكأنه يحجزنا عن الإثم والخطيئة بسياج من الهدي، وكأنه يبعثنا كل يوم من قبور الإهمال وأجداث النسيان ، عجب لهذا القرآن كلما لغونا ولهينا وسهرنا نادانا من جديد، هلموا إلى الحق والجد والعمل، كلما ضعنا وتهنا وضللنا صاح بنا هنا الطريق هنا الهدي هنا الفلاح، كلما أذنبنا وأخطأنا دعانا أقبلوا على رب رحيم وملك كريم وجواد حليم، كلما فترنا واكاسلنا وتراخينا هزنا يا ناس واصلوا، يا قوم عجلوا وأبشروا واجتهدوا، كلما غضبنا وحزنا وضاقت السبل أمامنا صب القرآن على قلوبنا سحب الرضوان والسكينة والأمن ، صدق الجن: ) إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) إنه ملام يشبع الروح، ويروي غليل النفس ويغسل أدران الضمير، إنه أحسن الحديث صدقاً ومتاعاً وفخامة واصالة، إنه أحسن القصص تسلية وتعزية وأسوة، إنه موعظة تردع عن الزلل وتحمي من الانحراف وتعصم من الذنب وصدق الجن : ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً). تسمع القصائد وتنصت للمحاضرات وتروعك الخطب تشجعك المواعظ ثم تسمع القرآن فكأنك ما سمعت شيئاً وما أعجبك شئ ، وما نهرك شئ، لأنه كتاب لا ريب فيه، يرشد من الحيرة، ويحفظ من الضلال ، ويعصم من الزيغ ، فالقرآن حياة من الهناء والسعادة ، وعالم من الإبداع والجمال، وتاريخ من الأحداث والقضايا ، وسجل من الشرق والرفعة، وديوان من الخلود والنبل، بل تاريخ أمة، وخطاب عالم، وكلام إله ، ومستقبل أجيل، وقضية معجزة، هو حق يدفع باطل، ونور يكشف ظلاماً، وصدق ينهر كذباً، وهدي يحارب ضلالاً، وعدل يطارد ظلماً، وصدق الجن: ) إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً). ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)
مدح الله نفسه بهذا الوصف المتضمن قدرته جل في علاه، وأنه لا يقع شئ في العالم إلا بإذنه ، فهو كل يوم في شأن ، يخفض ويرفع، يعطي ويمنع، يقبض ويبسط، يولى ويخلع، ويقني ، يضحك ويبكي، يميت ويحيي، يهدي ويضل، يعافي ويبتلي. كل يوم هو في شأن؛ يعطي فقيراً، يهدي حائراً، يشافي مريضاً، يرد غائباً، يرشد ضالاً، يشبع جائعاً، يسقي ظمآناً. كل يوم هو في شأن ؛ يسحق طاغياً، يمزق باغياً، يكبت فاجراً، يهزم كافراً، يخذل عدواً ، يرد معتدياً، ينصر ولياً، يحفظ صالحاً، ينجد ملهوفاً، يجيب داعياً، يحمي مظلوماً، يعطي سائلاً، يمنح نائلاً، يجبر كسيراً، يعين مسكيناً، يرحم ميتاً، يعافي مصاباً، يدحض باطلاً، ينصر حقاً. كل يوم هو في شأن ؛ ينزل الغيث، يسوق الغمام، يجري الريح، يسخر البحر، يزيد العابدين، يوفق الصالحين، يدل المجتهدين، ينصر المجاهدين، يؤمن الخائفين ، يتوب على التائبين، يغفر للمسنغفرين. كل يوم هو شأن؛ يولج الليل في النهار، يرسل البرق يكاد يذهب بالأبصار، يجري السفن في البحار، يحوط المسافرين من الأخطار. كل يوم هو في شأن؛ يكشف كرباً، يزيل خطباً، يغفر ذنباً، يحل ويبرم، يقدم ويؤخر ، يثيب الطائع، يحلم على المقصر، يتجاوز عن المسئ ، يستر المذنب، يمهل العاصي. كل يوم هو في شأن؛ يفلق الحب والنوي، يعلم ما في الأرحام، يكتب الآجال، يحصي الأعمال، ينزل الأرزاق، يفك القيود، يطلق الأسري، يكلؤ من في البر والبحر، يرعي المسافرين، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. كل يوم هو في شأن؛ يطلع على ما في السرائر، يعلم ما في الضمائر ، يجيب المضطر ، ينقذ من المخاطر، يعصم من المهالك، يهدي من الغي، يبصر من العمي ، يرشد من الحيرة. كل يوم في شأن؛ يعزل ولاة، يخلع ملوكاً، يهلك دولاً، يبيد شعوباً، يأخذ المتكبرين، يقصم المتجبرين. وإن من ينظر في الكون نظرة المتبصر ويتفكر في المخلوقات وما يقع في الأرض من أعمال وحوادث يعجب من عظمة الملك الواحد الأحد وسعه اطلاغه وبالغ علمه، جل في علاه، فكل حركة معلومة، وكل لفظة محسوية، وكل نقطة أو ورقة أو ثمرة محصية، عالم هائل من الحياة والموت، والغني والفقر ، والصلاح والفساد، والسلم الحرب، والهداية والغواية، والصحة والمرض، كل ذلك بإذن الملك الحق الذي لا تخفي عليه خافية من أعمال هذه الخليقة، فلا يلتبس عليه أمر، ولا تختلف عليه لغة، ولا يع-عن علمه شيء ، ولا تفوته حركة ، ولا تند عن علمه كائنة، وقد وسع علمه كل شئ ، وقد عم فضله وانتشر إحسانه. إن العالم شركة صاخبة من البناء والنتاج والتزاوج والتولد والاتفاق والاخالاف والسلم والحرب، تصالح وتقاتل، تآلف وتباين، بيع وشراء، حل وترحال، يقظة ونوم، حياة وموت، لكن المذهل أن ذلك بعلم الأحد الصمد وبتقديره وتدبيره واطلاعه جل في علاه, ملائكة تكتب وسجلات تحصي وأقلام تخط ودواوين محفوظة، والرقيب الحسيب على ذلك كله عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفي عليه خافية.