نسب الإمام البخاري:
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي. فجده
بردزبه ضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وكسر الدال المهملة
وسكون الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة بعدها هاء.
قال الحافظ ابن حجر: "هذا هو المشهور في ضبطه, وبردزبه في الفارسية الزراع كذا يقول أهل بخارى, وكان بردزبة
فارسيا على دين قومه" انتهى.
وجده المغيرة ابن بردزبه أسلم على يدي يمان البخاري والي بخارى ويمان جعفي
فنسب إليه لأنه مولاه من فوق, عملا بمذهب من يرى أن من أسلم على يد شخص كان ولاؤه له.
وجده إبراهيم قال الحافظ ابن حجر إنه لم يقف على شيء من أخباره.
وأبوه إسماعيل ترجم له ابن حبان في الثقات وقال: "إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري
يروي عن حماد بن زيد ومالك وروى عنه العراقيون", وترجم له الحافظ في تهذيب التهذيب.
متى وأين ولد:-
ولد رحمه الله في بخارى (وهي من أعظم مدن ما وراء النهر بينها وبين سمرقند مسافة ثمانية أيام) في يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة.
نشأته وبدؤه طلب العلم: -
توفي والده وهو صغير فنشأ في حجر أمه وأقبل على طلب العلم منذ الصغر وقد تحدث عن نفسه فيما ذكره
الفِرَبْري عن محمد بن أبي حاتم ورّاق البخاري قال: سمعت البخاري يقول:"ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب"، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟، قال : "عشر سنين أو أقل"، إلى أن قال: "فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء - يعني أصحاب الرأي-" ، قال: "ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج, فلما طعنت في ثمان عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين ثم صنفت التاريخ بالمدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتبه في الليالي المقمرة"، قال: "وقلَّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت أن يطول الكتاب".
رحلته في طلب العلم وسماعه الحديث: -
اشتغل وهو صغير في طلب العلم وسماع الحديث فسمع من أهل بلده من مثل محمد بن سلام ومحمد بن يوسف البيكنديين وعبد الله بن محمد المسندي وابن الأشعث وغيرهم ثم حج هو وأمه وأخوه أحمد وهو أسن منه سنة عشر ومائتين فرجع أخوه بأمه وبقي في طلب العلم فسمع بمكة من الحميدي وغيره وبالمدينة من عبد العزيز الأويسي ومطرف ابن عبد الله وغيرهم ثم رحل إلى أكثر محدثي الأمصار في خراسان
والشام ومصر ومدن العراق وقدم بغداد مرارا واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علمي الرواية والدراية وسمع ببلخ من مكي بن إبراهيم وغيره وبمرو من علي بن الحسن وعبد الله بن عثمان وغيرهما وبنيسابور من يحيى بن يحيى وغيره وبالري من إبراهيم بن موسى وغيره وببغداد من شريح بن النعمان وأحمد بن حنبل وغيرهما
وبالبصرة من أبي عاصم النبيل ومحمد بن عبد الله الأنصاري وغيرهما وبالكوفة من طلق بن غنام وخلاد بن يحيى وغيرهما وبمصر من سعيد بن كثير بن عفير وغيره وسمع من أناس كثيرين غير هؤلاء ونقل عنه أنه قال: "كتبت عن ألف وثمانين نفسا ليس فيهم إلا صاحب حديث", وقال أيضا: "لم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل".
ذكاؤه وقوة حفظه: -
وكان رحمه الله قوي الذاكرة سريع الحفظ ذكر عنه المطلعون على حاله ما يتعجب منه الأذكياء ذوو الحفظ والإتقان فضلا عمن سواهم فقد قال
أبو بكر الكلذواني: "ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الحديث من مرة واحدة".
وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: تحفظ جميع ما أدخلته في المصنف، قال: "لا يخفى علي جميع ما فيه",
وقال محمد بن حمدوية: سمعت البخاري يقول: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح, ومائتي ألف حديث غير صحيح".
وقال محمد بن الأزهر السجستاني: كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه, ولعل من أعجب ما نقل عنه في ذلك
ما قاله الحافظ أبو أحمد ابن عدي كما في تاريخ بغداد ووفيات الأعيان وغيرهما سمعت عدة مشائخ يحكون أن محمد
بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد
آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث
من تلك الأحاديث فقال البخاري: "لا أعرفه"، فسأله عن آخر فقال: "لا أعرفه", فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول: "لا أعرفه"، فكان
الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم, ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم, ثم انتدب رجل آخر من العشرة وسأله كما سأله الأول والبخاري رحمه الله يجيب بما أجاب به الأول ثم الثالث والرابع حتى فرغ العشرة مما هيأوه من الأحاديث فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا وحديثك الثاني قلت كذا وصوابه كذاوالثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل، وعند ذكر هذه القصة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "هنا يخضع للبخاري فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا, بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة".
نماذج من ثناء الناس عليه رحمه الله: -
وقد كان البخاري رحمه الله موضع التقدير من شيوخه وأقرانه تحدثوا عنه بما هو أهله وأنزلوه المنزلة التي تليق به وكذلك غيرهم ممن عاصره أو جاء بعده وقد جمع مناقبه
الحافظان الكبيران الذهبي وابن حجر العسقلاني في مؤلفين خاصين كما ذكر ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ وابن حجر في تهذيب التهذيب. ولعل من المناسب هنا ذكر بعض النماذج من ذلك:
قال أبو عيسى الترمذي: "كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير فقال له لما قام: يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة فاستجاب الله تعالى له فيه"..
ويقول الإمام البخاري: "كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب يقول: "بيّن لنا غلط شعبة"،
وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: سمعت يحيى بن جعفر البيكندي يقول: "لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد
وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم"..
وقال أحمد بن حنبل: "ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل", ولما بلغ علي بن المديني قول البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني" قال لمن أخبره: "دع قوله؛ ما رأى مثل نفسه"..
وقال رجاء بن رجاء: "هو - يعني البخاري - آية من آيات الله تمشي على ظهر
الأرض".
وقال أبو عبد الله الحاكم في تاريخ نيسابور: "هو إمام أهل الحديث بلا خلاف بين أهل النقل"..
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري"..
ويقول الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: "وكان رأسا في الذكاء رأسا في العلم رأسا في الورع والعبادة"، ويقول في كتابه العبر: "وكان من أوعية العلم يتوقد ذكاء ولم يخلف بعده
مثله رحمة الله عليه"،
وقال الحافظ ابن حجر في كتابه تقريب التهذيب: "أبو عبد الله البخاري جبل الحفظ وإمام الدنيا ثقة الحديث".
وقال الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "هو إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه"، وقال: "وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء والرغبة في الآخرة دار البقاء"، وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: "هو إمام المسلمين
وقدوة الموحدين وشيخ المؤمنين والمعول عليه في أحاديث سيد المرسلين وحافظ نظام
الدين"، وقال محمد بن يعقوب الأخرم سمعت أصحابنا يقولون: لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل على الخيل سوى من ركب بغلا أو حمارا وسوى الرجالة". هذا غيض من فيض مما قيل في الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى برحمته الواسعة.
مصنفاته: -
وقد أتحف الإمام البخاري رحمه الله المكتبة الإسلامية بمصنفات قيّمة نافعة أجلّها وعلى رأسها كتابه الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي.
ومن مؤلفاته: الأدب المفرد, ورفع اليدين في الصلاة, والقراءة خلف الإمام, وبر الوالدين,والتأريخ الكبير, والأوسط, والصغير, وخلق أفعال العباد, والضعفاء, والجامع الكبير, والمسندالكبير, والتفسير الكبير, وكتاب الأشربة, وكتاب الهبة, وأسامي الصحابة, إلى غير ذلك من مؤلفاته الكثيرة التي أورد كثير منها الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة فتح الباري…
عناية العلماء بترجمته ونقل أخباره رحمه الله : -
لما قام الإمام البخاري رحمه الله بالعناية التامة في تدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيتها من الشوائب وتجريد الأحاديث الصحيحة جعل الله له لسان صدق في
الآخرين فما زال الناس منذ عصره ولا يزالون يثنون عليه ويترحمون عليه ويولون كتابه الجامع الصحيح العناية التامة وما من مؤلف في التاريخ وتراجم الرجال إلا ويزين مؤلفه
بذكر ترجمته والتنويه بشأنه ونقل أخباره رحمه الله.
فهذا الحافظ الذهبي رحمه الله يترجم له في تذكرة الحفاظ ويقول بعد نقل شيء من مناقبه: "قلت: قد أفردت مناقب هذا الإمام في جزء ضخم فيه العجب".
وهذا الحافظ ابن حجر يترجم له في تهذيب التهذيب ويقول في ترجمته: "قلت: مناقبه
كثيرة جدا قد جمعتها في كتاب مفرد ولخصت مقاصده في آخر الكتاب الذي تكلمت فيه على تعاليق الجامع الصحيح".
وقد ترجم له أيضا في آخر كتاب هدي الساري مقدمة فتح الباري ونقل شيئا من ثناء
مشائخه وأقرانه عليه ثم قال: "ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس ونفدت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له".
وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية في أعيان سنة ست وخمسين ومائتين وقال: "وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه ولنذكر هنا نبذة يسيرة من ذلك", فذكرها في ثلاث صفحات.
وترجم له ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى وعّدد شيئا من مناقبه ثم قال: "واعلم أن مناقب أبي عبد الله كثيرة فلا مطمع في استيعاب غالبها والكتب مشحونة به وفيما وردناه مقنع وبلاغ".