البصيرة والفراسة
/الآيات/ الأحاديث/ الآثار
البصيرة لغة:
البصيرة على وزن فعيلة بمعنى مفعلة مأخوذة من مادّة (ب ص ر) الّتي تدلّ على العلم بالشّيء، يقال هو بصير به. قال الرّاغب: «البصر يقال للجارحة النّاظرة (أي العين) نحو قوله تعالى:
كَلَمْحِ الْبَصَرِ (النحل/ 77)، ويقال لقوّة القلب المدركة بصيرة وبصر نحو قوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (ق/ 22) .. وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر قال تعالى: فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ (الأحقاف/ 26) ولا يكاد يقال لجارحة بصيرة، ويقال من الأوّل (البصر) أبصرت، ومن الثّاني (البصيرة) أبصرته وبصرت به وقلّما يقال: بصرت في الحاسّة إذا لم تضمّنه رؤية القلب .. وقوله- عزّ وجلّ- أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (يوسف/ 108) أي على معرفة وتحقّق، والضّرير يقال له بصير على سبيل العكس (كذا قالوا) والأولى أنّ ذلك يقال دعاء له من قوّة بصيرة القلب لا لما قالوه، ولهذا لا يقال له مبصر ولا باصر. ويقول صاحب اللّسان: يقال: بصر به بصرا وبصارة وأبصره وتبصّره: نظر إليه هل يبصره.
قال سيبويه: بصر صار مبصرا، وأبصره إذا أخبر بالّذي وقعت عينه عليه، وحكاه اللّحيانيّ: بصر به، بكسر الصّاد: أي أبصره. وأبصرت الشّيء: رأيته، وباصره: نظر معه إلى شيء أيّهما يبصره قبل صاحبه.
وبصر بصارة: صار ذا بصيرة، وبصّره الأمر تبصيرا وتبصرة: فهّمه إيّاه. وقال الأخفش في قوله: قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ (96 سورة طه)، أي علمت ما لم يعلموا به من البصيرة، وقال اللّحيانيّ:
والبصيرة: عقيدة القلب. قال اللّيث: البصيرة اسم لما اعتقد في القلب من الدّين وتحقيق الأمر، وقيل:
البصيرة الفطنة، تقول العرب: أعمى اللّه بصائره أي فطنه، عن ابن الأعرابيّ، وفعل ذلك على بصيرة: أي على عمد، وعلى غير بصيرة: أي على غير يقين.
التّبصّر. التّامّل والتّعرّف، والتّبصير: التّعريف والإيضاح، ورجل بصير بالعلم: عالم به. ويقال للفراسة الصّادقة: فراسة ذات بصيرة «1».
ومن أجل أنّ الفراسة بعض إطلاقات البصيرة وهما المقصودتان هنا فقد جئنا بتعريف الفراسة أيضا.
قال الأصمعيّ: يقال فارس بيّن الفروسة والفراسة والفروسيّة، وإذا كان فارسا بعينه ونظره فهو
بيّن الفراسة، (بكسر الفاء)، ويقال: إنّ فلانا لفارس بذلك الأمر إذا كان عالما به. ويقال هو يتفرّس إذا كان يتثبّت وينظر. ويقال: رجل فارس بيّن الفروسة والفراسة في الخيل، وهو الثّبات عليها والحذق بأمرها، ورجل فارس بالأمر أي عالم به بصير.
والفراسة (بكسر الفاء): في النّظر والتّثبّت والتّأمّل للشّيء والبصر به، يقال: إنّه لفارس بهذا الأمر إذا كان عالما به. والفراسة، (بالكسر): الاسم من قولك: تفرّست فيه خيرا.
وتفرّس في الشّيء: توسّمه، والاسم الفراسة بالكسر.
واستعمل الزّجّاج منه أفعل فقال: أفرس النّاس أي أجودهم وأصدقهم فراسة ثلاثة: العزيز في يوسف- على نبيّنا وعليه الصّلاة والسّلام- وابنة شعيب في موسى- على نبيّنا وعليهم الصّلاة والسّلام- وأبو بكر في تولية عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنهما- «1».
واصطلاحا:
قال الجرجانيّ: البصيرة هي قوّة القلب المنوّر بنور اللّه يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها. وهي بمثابة البصر للنّفس يرى به صور الأشياء وظواهرها. وقال الكفويّ: البصيرة قوّة في القلب تدرك بها المعقولات «2».
والبصير: اسم من أسماء اللّه الحسنى. والبصير هو المبصر لجميع المبصرات، وفي «النّهاية»: أنّ البصير هو الّذي يشاهد الأشياء كلّها، ظاهرها وخفيّها، والبصر في حقّه تعالى عبارة عن الصّفة الّتي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات.
وقيل: البصير المتّصف بالبصر لجميع الموجودات، فيعلم تعالى جميع المبصرات تمام العلم، وتنكشف له تمام الانكشاف والتّجلّي، فهو يبصر خائنة الأعين وما تخفي الصّدور. يشاهد ويرى، ولا يغيب عنه ما في السّموات العلى، وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثّرى، وهو الحاضر الّذي لا يغيب «3».
منزلة الفراسة:
قال ابن القيّم- رحمه اللّه-: ومن منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة/ 4) منزلة الفراسة. قال اللّه تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (الحجر/ 75) قال مجاهد- رحمه اللّه: المتفرّسين.
وقال: ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما-: للنّاظرين، وقال قتادة: للمعتبرين، وقال مقاتل: للمتفكّرين.
ولا تنافي بين هذه الأقوال، فإنّ النّاظر متى نظر في آثار ديار المكذّبين ومنازلهم، وما آل إليه أمرهم أورثه فراسة وعبرة وفكرة، وقال تعالى في حقّ المنافقين: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (محمد/ 30)، فالأوّل:
فراسة النّظر والعين، والثّاني: فراسة الأذن والسّمع.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمه اللّه- يقول: علّق معرفته إيّاهم على المشيئة، ولم يعلّق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط، بل أخبر به خبرا مؤكّدا بالقسم، فقال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
(محمد/ 30) وهو تعريض الخطاب، وفحوى الكلام ومغزاه.
والمقصود: أنّه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم، فإنّ معرفة المتكلّم وما في ضميره من كلامه: أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه، فإنّ دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السّيماء المرئيّة، والفراسة تتعلّق بالنّوعين بالنّظر والسّماع.
والفراسة ثلاثة أنواع:
إيمانيّة. وسببها: نور يقذفه اللّه في قلب عبده، يفرّق به بين الحقّ والباطل، والحالي «1» والعاطل «2»، والصّادق والكاذب.
وحقيقتها: أنّها خاطر يرد على القلب ينفي ما يضادّه. وهذه الفراسة على حسب قوّة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانا فهو أحدّ فراسة.
وأصل هذا النّوع من الفراسة: من الحياة والنّور اللّذين يهبهما اللّه تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطئ، قال اللّه تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها (الأنعام/ 122) كان ميتا بالكفر والجهل، فأحياه اللّه بالإيمان والعلم، وجعل له القرآن والإيمان نورا يستضيء به في النّاس على قصد السّبيل، ويمشي به في الظّلم واللّه أعلم.
الفراسة الثّانية: فراسة الرّياضة والجوع والسّهر والتّخلّي، فإنّ النّفس إذا تجرّدت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجرّدها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدلّ على إيمان ولا على ولاية، وكثير من الجهّال يغترّ بها، وللرّهبان فيها وقائع معلومة، وهي فراسة لا تكشف عن حقّ نافع ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئيّ من جنس فراسة الولاة، وأصحاب عبارة الرّؤيا والأطبّاء ونحوهم.
الفراسة الثّالثة: الفراسة الخلقيّة، وهي الّتي صنّف فيها الأطبّاء وغيرهم واستدلّوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الّذي اقتضته حكمة اللّه كالاستدلال بصغر الرّأس الخارج عن العادة على صغر العقل. ومعظم تعلّق الفراسة بالعين، فإنّها مرآة القلب وعنوان ما فيه، ثمّ باللّسان، فإنّه رسوله وترجمانه.
وأصل هذه الفراسة: أنّ اعتدال الخلقة والصّورة: هو اعتدال المزاج والرّوح، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال، وبحسب انحراف
الخلقة والصّورة عن الاعتدال يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال. هذا إذا خلّيت النّفس وطبيعتها.
وفراسة المتفرّس تتعلّق بثلاثة أشياء: بعينه، وأذنه، وقلبه، فعينه للسّيماء والعلامات، وأذنه: للكلام وتصريحه وتعريضه، ومنطوقه ومفهومه، وقلبه للعبور والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيّه، فيعبر إلى ما وراء ظاهره، وهو في ذلك كالصّير فيّ ينظر للجوهر من ظاهر السّكّة والنّقد فيعرف الصّحيح من الزّائف.
البصيرة تنجم عن الفكرة:
الفكرة هي تحديق القلب نحو المطلوب الّذي قد استعدّ له مجملا، ولمّا يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه، فإذا صحّت الفكرة أوجبت البصيرة، إذ هي نور في القلب يبصر به الوعد، والجنّة والنّار، وما أعدّ اللّه في هذه لأوليائه؛ لأنّ البصيرة نور يقذفه اللّه في قلب يرى به حقيقة ما أخبرت به الرّسل فيتحقّق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرّسل وتضرّره بمخالفتهم؛ وهذا معنى قول العارفين «البصيرة» تحقّق الانتفاع بالشّيء والتّضرّر به، والبصيرة ما خلّصك من الحيرة إمّا بإيمان أو بعيان «1».
الفرق بين الفراسة (البصيرة) والظن:
الفرق بين الفراسة والظّنّ أنّ الظّنّ يخطىء ويصيب وهو يكون مع ظلمة القلب ونوره ولهذا أمر تعالى باجتناب كثير منه وأخبر أنّ بعضه إثم «2».
وأمّا الفراسة فقد أثنى اللّه على أهلها ومدحهم، وهي لا تحدث إلّا لقلب قد تطهّر وتصفّى وتنزّه من الأدناس وقرب من اللّه تعالى فأصبح صاحبه ينظر بنور اللّه الّذي جعله في قلبه، ذلك لأنّ القلب إذا قرب من اللّه انقطعت عنه معارضات السّوء المانعة من معرفة الحقّ وإدراكه، وكان تلقّيه من مشكاة قريبة من اللّه بحسب قربه منه، وأضاء اللّه له النّور بقدر قربه فرأى في ذلك النّور ما لم يره البعيد والمحجوب وصار قلبه كالمرآة الصّافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطىء له فراسة.
بين الفراسة والغيب:
ليست الفراسة من علم الغيب بل علّام الغيوب قذف الحقّ في قلب قريب مستبشر بنوره غير مشغول بنقوش الأباطيل والخيالات والوساوس الّتي تمنعه من حصول صور الحقائق فيه، وإذا غلب على القلب النّور فاض على الأركان وبادر من القلب إلى العين فكشف بعين بصره بحسب ذلك النّور «3».
[للاستزادة: انظر صفات: الإيمان- التأمل- التبين (التثبت)- التدبر- حسن الظن- التفكر- التقوى.
اليقين.
وفي ضد ذلك: نظر صفات: البلادة والغباء- سوء الظن- الشك- الطيش- الغفلة- الوسوسة- الوهم ].
الآيات الواردة في «البصيرة»
1- قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) «1»
2- يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
كَلَّا لا وَزَرَ (11)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) «2»
الايات الواردة في «البصيرة» معنى
3- قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) «3»
4- وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) «4»
5- قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) «5»
6- إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) «6»
7- وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) «7»
__________
(1) يوسف: 108 مكية
(2) القيامة: 10- 15 مكية
(3) يوسف: 5- 6 مكية
(4) يوسف: 18 مكية
(5) يوسف: 26 مكية
(6) الحجر: 75 مكية
(7) محمد: 30- 31 مدنية
الأحاديث الواردة في (البصيرة والفراسة)
1-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللّه عنه- أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر قوما يكونون في أمّته، يخرجون في فرقة من النّاس، سيماهم التّحالق «1». قال: «هم شرّ الخلق أو من أشرّ الخلق- يقتلهم أدنى الطّائفتين إلى الحقّ» قال: فضرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لهم مثلا: أو قال قولا: «الرّجل يرمي الرّميّة- أو قال الغرض- فينظر في النّصل «2» فلا يرى بصيرة، وينظر في النّضيّ «3» فلا يرى بصيرة، وينظر في الفوق «4» فلا يرى بصيرة»)* «5» قال: قال أبو سعيد: وأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.
2-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللّه عنه- قال: حدّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوما حديثا طويلا عن الدّجّال، فكان فيما حدّثنا قال: «يأتي وهو محرّم عليه أن يدخل نقاب «6» المدينة، فينتهي إلى بعض السّباخ «7» الّتي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير النّاس، أو من خير النّاس، فيقول له:
أشهد أنّك الدّجّال الّذي حدّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حديثه، فيقول الدّجّال: أرأيتم إن قتلت هذا ثمّ أحييته، أتشكّون في الأمر؟ فيقولون: لا، قال:
فيقتله ثمّ يحييه، فيقول حين يحييه: واللّه ما كنت فيك قطّ أشدّ بصيرة منّي الان، قال: فيريد الدّجّال أن يقتله فلا يسلّط عليه»)* «8».
الأحاديث الواردة في (البصيرة والفراسة) معنى
3-* (عن أبي سعيد الخدريّ- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه، ثمّ قرأ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (الحجر/ 75)»)* «9».
4-* (عن أنس- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن للّه عبادا يعرفون النّاس بالتّوسّم»)* «10».
5-* (عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال:
جاء رجل من بني فزارة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إنّ امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «هل لك من إبل؟» قال: نعم قال: «فما ألوانها؟» قال: حمر، قال:
«هل فيها من أورق؟» قال: إنّ فيها لورقا «1»، قال:
«فأنّى أتاها ذلك؟» قال: عسى أن يكون نزعه عرق «2»، قال: «وهذا عسى أن يكون نزعه عرق»)* «3».
6-* (عن سهل بن سعد السّاعديّ قال:
جاء عويمر العجلانيّ إلى عاصم بن عديّ فقال:
أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتله، أتقتلونه به؟
سل لي يا عاصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسأله فكره النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم المسائل وعابها، فرجع عاصم فأخبره أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كره المسائل فقال عويمر: واللّه لاتينّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
فجاء وقد أنزل اللّه تعالى القرآن خلف عاصم، فقال له: «قد أنزل اللّه فيكم قرآنا»، فدعا بهما فتقدّما فتلاعنا، ثمّ قال عويمر: كذبت عليها يا رسول اللّه إن أمسكتها، ففارقها، ولم يأمره النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بفراقها، فجرت السّنّة في المتلاعنين، وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
«أنظروها فإن جاءت به أحمر قصيرا مثل وحرة «4» فلا أراه إلّا قد كذب، وإن جاءت به أسحم أعين «5» ذا أليتين «6» فلا أحسب إلّا قد صدق عليها، فجاءت به على الأمر المكروه»)* «7».
7-* (عن عمرو بن عبسة السّلميّ- رضي اللّه عنه- قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعرض الخيل وعنده عيينة بن بدر الفزاريّ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«أنا أعلم بالخيل منك» فقال عيينة: وأنا أعلم بالرّجال منك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فمن خير الرّجال؟» قال: رجال يحملون سيوفهم على عواتقهم ورماحهم على مناسج خيولهم من رجال نجد، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «كذبت بل خير الرّجال رجال اليمن، والإيمان يمان إلى لخم وجذام، ومأكول حمير خير من أكلها وحضر موت خير من بني الحارث، واللّه ما أبالي لو هلك الحارثان جميعا لعن اللّه الملوك الأربعة جمدا ومخوسا وأبضعة وأختهم العمرّدة» ثمّ قال: «أمرني ربّي أن ألعن قريشا مرّتين فلعنتهم، وأمرني أن أصلّي عليهم فصلّيت عليهم مرّتين مرّتين» ثمّ قال: «لعن اللّه تميم بن مرّة خمسا وبكر بن وائل سبعا ولعن اللّه قبيلتين من قبائل بني تميم: مقاعس وملادس» ثمّ قال: «عصيّة عصت اللّه ورسوله. عبد قيس وجعدة وعصمة» ثمّ قال: «أسلم وغفار ومزينة وأحلافهم من جهينة خير من بني أسد وتميم وغطفان وهوازن عند اللّه يوم القيامة» ثمّ قال: «شرّ قبيلتين في العرب نجران وبنو تغلب وأكثر القبائل في الجنّة مذحج»)* «8».
8-* (عن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدّثون «1»، فإن يك في أمّتي أحد فإنّه عمر» زاد زكريّاء: وعن سعد عن أبي هريرة قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمّتي منهم أحد فعمر». قال ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما- من نبيّ ولا محدّث»)* «2».
9-* (عن عبد اللّه بن سلام قال: لمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة انجفل «3» النّاس إليه، وقيل قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فجئت في النّاس لأنظر إليه فلمّا استبنت وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عرفت أنّ وجهه ليس بوجه كذّاب وكان أوّل شيء تكلّم به أن قال: «يا أيّها النّاس: أفشوا السّلام، وأطعموا الطّعام، وصلّوا والنّاس نيام تدخلوا الجنّة بسلام»)* «4».
من الآثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (البصيرة)
1-* (وروي أنّ عمر بن الخطّاب- رضي اللّه عنه- دخل عليه قوم من مذحج فيهم الأشتر، فصعّد فيه النّظر وصوّبه وقال: أيّهم هذا؟ قالوا:
مالك بن الحارث، فقال: ما له قاتله اللّه، إنّي لأرى للمسلمين منه يوما عصيبا، فكان منه في الفتنة ما كان)* «5».
2-* (قال ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما-: ما سألني أحد عن شيء إلّا عرفت أفقيه هو أو غير فقيه)* «6».
3-* (روي عن الشّافعيّ ومحمّد بن الحسن أنّهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجّارا، وقال الاخر: بل حدّادا، فتبادر من حضر إلى الرّجل فسأله فقال: كنت نجّارا وأنا اليوم حدّاد)* «7».
4-* (قال ابن مسعود- رضي اللّه عنه-:
أفرس النّاس ثلاثة: العزيز في يوسف، حيث قال لامرأته أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً (يوسف/ 21) وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: اسْتَأْجِرْهُ القصص/ 26)، وأبو بكر في عمر- رضي اللّه عنهما- حيث استخلفه، وفي رواية أخرى: وامرأة فرعون حين قالت: وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ
__________
(1) محدّثون: ملهمون أو مصيبون وقيل تكلمهم الملائكة بغير نبوة وقال ابن حجر: يجري الصواب على ألسنتهم من غير قصد.
نَتَّخِذَهُ وَلَداً (القصص/ 9))* «1».
5-* (قال عبد اللّه بن رواحة للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
إنّي توسّمت فيك الخير أعرفه ... واللّه يعلم أنّي ثابت البصر
وقال آخر:
توسّمته لمّا رأيت مهابة ... عليه وقلت المرء من آل هاشم)*
«2».
6-* (قال ابن القيّم: كان الصّدّيق- رضي اللّه عنه- أعظم الأمّة فراسة، وبعده عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه، ووقائع فراسته مشهورة فإنّه ما قال لشيء أظنّه كذا إلّا كان كما قال، ويكفي في فراسته: موافقته ربّه في المواضع المعروفة.
ومرّ بعمر- رضي اللّه عنه- سواد بن قارب، ولم يكن يعرفه، فقال: لقد أخطأ ظنّي، وإنّ هذا كاهن، أو كان يعرف الكهانة في الجاهليّة. فلمّا جلس بين يديه قال له ذلك عمر، فقال: سبحان اللّه يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به، فقال له عمر رضي اللّه عنه: ما كنّا عليه في الجاهليّة أعظم من ذلك، ولكن أخبرني عمّا سألتك عنه، فقال:
صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهليّة ... وفراسة الصّحابة- رضي اللّه عنهم- أصدق الفراسة)* «3».
7-* (قال ابن القيّم- رحمه اللّه-: كان إياس ابن معاوية من أعظم النّاس فراسة، وله الوقائع المشهورة، وكذلك الشّافعيّ رحمه اللّه، وقيل: إنّ له فيها تاليف)* «4».
8-* (وقال أيضا: ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه أمورا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما)* «5».
9-* (روي عن الحسن البصريّ أنّه دخل عليه عمرو بن عبيد فقال: هذا سيّد فتيان البصرة إن لم يحدث، فكان من أمره من القدر ما كان، حتّى هجره عامّة إخوانه)* «6».
10-* (قال ثعلب: الواسم النّاظر إليك من فرقك «7» إلي قدمك، وأصل التّوسّم التّثبّت والتّفكّر، مأخوذ من الوسم وهو التّأثير بحديدة في جلد البعير وغيره، وذلك يكون بجودة القريحة وحدّة الخاطر وصفاء الفكر، زاد غيره: وتفريغ القلب من حشو الدّنيا، وتطهيره من أدناس المعاصي وكدورة الأخلاق وفضول الدّنيا)* «8».
11-* (قال عمرو بن نجيد: كان شاه الكرمانيّ حادّ الفراسة لا يخطىء، ويقول: من غضّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشّهوات، وعمّر باطنه بالمراقبة وظاهره باتّباع السّنّة، وتعوّد أكل الحلال لم تخطىء فراسته)* «9».
12-* (يقال في بعض الكتب القديمة: إنّ الصّدّيق لا تخطىء فراسته)* «1».
13-* (قال الشّاعر طريف بن تميم العنبريّ:
أو كلّما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
14-* (وقال زهير بن أبي سلمى:
وفيهنّ ملهى للصّديق ومنظر ... أنيق لعين النّاظر المتوسّم
15-* (وقيل في قول اللّه تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (الحجر/ 75). قيل: معناه للمتفرّسين أو للنّاظرين أو للمعتبرين، أو للمتبصّرين، قال أبو عبيدة: والمعنى متقارب)* «2».
من فوائد (البصيرة والفراسة)
(1) الفراسة الإيمانيّة نظر إلى الأشياء بنور اللّه.
(2) تشعر المؤمن بكرامته على اللّه.
(3) قوّة الفراسة على حسب قوّة الإيمان.
(4) المتفرّس المؤمن يثق به النّاس ويطمئنّون إليه.
(5) معظم تعلّق الفراسة بالعين والقلب.
(6) بعض الفراسة يحصل بالرّياضة ولا علاقة لها بالإيمان ومعظم أصحابها مشعوذون.