كمثل غيث أَعجب الكفار نباته ((اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ
وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْأَوْلادِ
كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ
عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا
إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) (الحديد:20) . عندما قال الله تعالى
في سورة الحديد: (كَمَثَلِ
غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) (الحديد/20) انقسم
المفسرون إلى قسمين:
قسم يعني بالكفار الزراع، وقسم يعني بهم الكفار بالله.
قال الشيخ حسنين
محمد مخلوف رحمة الله : (أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ: أي
الزراع) كلمات القرآن تفسير وبيان.
وقال الراغب
الأصفهاني رحمه الله : (عني
بالكفار الزراع لأنهم
يغطون البذر في التراب.. وقيل عني الكفار، وخصهم
كونهم معجبين بالدنيا
وزخارفها وراكنين إليها) (مفردات ألفاظ القرآن) .
وأنا أميل إلى
القول
الأول لأن الزارع يكفر الحبوب والبذور أي يغطيها بالتراب في الأرض،
ونحن
نطلق على بلدان الزراعة الكفور أي موطن الزراع والفلاحين، والنبات
يعجب
المؤمن لأنه يجد فيه مقدرة الله وابداعه في خلقه ويشكر الله له، كما
يعجب
الكافر ولا يشكر الله له كما قال المؤمن للكافر
(وَلَوْلَا
إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ
إِلَّا
بِاللَّهِ) (الكهف/39).
فالمطلوب من
المؤمن
عندما يعجب بالزرع أن يرجع الأمر إلى الله ويقول: ما شاء الله لا
قوة
إلا بالله ، فهو القادر على إنبات النبات ونموه الخضري وإزهاره
وإثماره،
كما قال تعالى: (انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ
إِذَا
أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ)
(الأنعام/99).
وقال تعالى: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَاتِ
رِزْقاً لَّكُمْ) (إبراهيم/32) فالنبات رزق، والثمر
رزق،
والمؤمن يعجب بنعم الله إعجاب الحامد الشاكر، لذلك اخترنا المعنى
الأول
وهو الزراع.
والغيث هو الذي
جعله
الله وسيلة الإنبات ونمو النبات، وإن غاب الماء غاب الإنبات وهلك
النبات،
وعندما يختلط الماء بالنبات تبدأ البذور ـ بما أودع الله سبحانه
وتعالى
فيها من خصائص فيزيائية ـ امتصاص الماء وتشربه، وخصائص كيميائية
لانتاج
الإنزيمات المحللة للغذاء المدخر في الحبوب والبذور وتحويله من مواد
معقدة التركيب يتعذر على الجنين الاستفادة منها إلى مواد بسيطة التركيب
تدخل
إلى أنسجة الجنين فيستفيد منها , وأودع فيها خصائص حيوية تجعل الجنين
ينمو
ويعطي الجذير والرويشة وبذلك تكون البادرة ثم النبات المزهر والمثمر.
وعندما يرى
الزارع
البادرة قد ظهرت على سطح الأرض وتحولت الأرض السوداء والحمراء
والصفراء
الجرداء إلى أرض خضراء كساها بساط رقيق من البادرات يعجب بالنبات
وما
أحدث للأرض من تغيرات، فالمؤمن يقول عند ذلك (مَا
شَاء
اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) (الكهف/39)، ويعلم أن
الله
هو الذي أنبت النبات بقدره كما قال تعالى: (وَأَنزَلَ
لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ
مَّا
كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ
هُمْ
قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل/60).
أما الكافر فإنه
يظن
أنه الموصل للمياه للأرض وباذر البذور والحبوب، والمستنبط لأصنافها
والمخطط
لزرعها فيقول: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ عِندِي) (القصص/78). وهنا يكمن الفارق بين الزارع المؤمن
والزارع
الكافر.
ثم بعد ذلك
ينظر
الزارع المؤمن إلى البادرات وكيف تشابهت أوراقها الأولى في الجنس
النباتي
الواحد والنوع النباتي الواحد فقمة الورقة واحدة في ملايين
البادرات
من الجنس النباتي نفسه وحافتها واحدة، وشكلها واحد وعنقها واحد،
وهي
تفترق عن النبات المجاور لجنس آخر من النبات , فنبات يعطي ورقة بسيطة
معنقة
، وآخر يعطي ورقة بسيطة جالسة (أي من دون عنق)
ونبات يعطي ورقة بسيطة وآخر يعطي ورقة مركبة من وريقات إما ريشية الشكل أو
راحية.
والمؤمن يسأل
نفسه أين كانت هذه الأوراق
البسيطة والمركبة في الحبوب والبذور التي
بذرتها في الأرض وغطيتها
بالتراب؟
ومن أين جاء
اللون الأخضر الذي لم يكن موجودا في الحبوب والبذور؟
ومن وحد
الأجناس
المتشابهة وفرق الأجناس غير المتشابهة؟
ثم بعد ذلك
يستمر
النبات في النمو الخضري، فيزداد عدد الأوراق وطول الساق وعمق الجذور،
وتتغطى الأرض ببساط نباتي أخضر جميل تأتيه الرياح فتميله ثم تذهب عنه
قيعتدل،
وهكذا المؤمن مع الشدائد ونوائب الدهر كما قال المصطفى صلى الله
عليه
وسلم: (مثل المؤمن كالخامة من الزرع تفيئها الريح (أي تميلها وتثنيها) مرة، وتعدلها مرة)
متفق
عليه، فيعجب الزارع المؤمن بهذا السلوك التعليمي التعلمي العملي في
نباته،
لذلك نحن نرى الزراع يتحلون بالصبر، لأن الفلاح يبذر البذور ويصبر
عليها
إلى أن تنبت، ويذب عنها الطيور طوال اليوم من دون كلل أو ملل.
وبعد اشتداد عود
البادرات
والنباتات الغضة الخضراء، تبدأ البراعم الزهرية بالظهور والنمو
لتعطي
الأزهار الجميلة المتباينة الأشكال والأجزاء والألوان , وتكسي الأرض
بلون
واحد مع المحصول الواحد، ويتحول البساط الأخضر الجميل إلى بساط أصفر
أو
أحمر أو أبيض غاية في الحسن والجمال، فيعجب ذلك الزراع فيحمدون الله
سبحانه
وتعالى على نعمه البالغة ويسألون أنفسهم من أين أتت هذه الألوان
البديعة
في النبات وهي لم تكن موجودة في البذرة أو البادرة أو الماء أو
الأرض؟
وبعد مدة تحمل
الريح
حبوب اللقاح وكذلك تفعل الحشرات لتلقح كل جنس بحبوب جنسه وتبدأ ألوان
الأزهار تختفي وتسقط وريقاتها الجميلة معلنة أن الحياة الدنيا قصيرة، وأن
الجمال
الدنيوي إلى زوال، وأن من شكر نعمة الجمال حافظ عليه من المعاصي
وعدم
استخدامه في غير ما خلقه الله تعالى له، ولا يمشي الزارع المؤمن على
بتلات
زرعه الجميلة عندما تذبل وتسقط فقد أدت دورها المحدد لها في الحياة
الدنيا
, وأعطت الذرية لاستمرار الحياة بإنتاج البذور والحبوب والثمار،
وهنا
نجد الماء واحدا والبذور متشابهة، والبيئة واحدة وأحيانا كثيرة جنس
النبات
واحد ولكن الطعم مختلف حسب النوع النباتي والصنف، وعندما يأكل
الزارع المؤمن الثمار يحمد الله ويسأل نفسه من أين جاءت ألوان الثمار
المتباينة
بين الأصفر والأخضر والأحمر والبرتقالي والأبيض والبنفسجي
والقشري
والكهرماني؟
ومن أين
جاءت تلك المركبات الحيوية في
البذور والحبوب والثمار ؟
ومن حول
الماء
والهواء والضوء والنبات الخضري إلى هذه الثمار الجميلة واللذيذة ذات
المحتوى
السكري العالي والمحتوى الكيماوي الحيوي المختلف؟
وهنا يتعلم
المؤمن
أن من زرع حصد، وأن الدنيا مزرعة الآخرة وأن الله تعالى لم يخلقنا
في
هذه الحياة الدنيا عبثا وبالعشوائية والمصادفة كما يدعي الدارونيون
العلمانيون
(بفتح العين) الدنيويون الماديون.
ويعلم المؤمن
أننا
خلقنا في الحياة الدنيا لنعمر الأرض بنواميس الله في الكون وأن الله
خلقنا
في الأرض واستعمرنا فيها لعمارتها والإصلاح فيها (قَالَ
يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ
أَنشَأَكُم
مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ
ثُمَّ
تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود/61).
وقال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)
(الأعراف/85) فلا إسراف في الماء ولا دفن للنفايات السامة، ولا استخدام
المبيدات
الممرضة والمسرطنة وعليهم اتباع المنهاج الرباني القائل: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا
تَنسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ
إِلَيْكَ
وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ) (القصص/77).
هذا منهاج
المؤمن،
تسخير النعم للحصول على رضا رب العالمين في الآخرة وعدم نسيان
التمتع
الحلال بأرزاق الله في الدنيا، وأن يحسن العبد في الأرض وللإنسان
والحيوان
والنبات والبيئة كما أحسن الله له بالنعم فيها، وألا يتعمد
الإفساد في
الأرض بزراعاته وصناعاته وتجاراته وسلوكه لأن ذلك يغضب الله
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)
(القصص/77).
وهكذا الحياة
الدنيا كالنبات ينبت سريعا وينمو سريعا ويزهر ويثمر ثم تبدأ الشيخوخة
والموت
والذبول كما قال تعالى: (اعْلَمُوا
أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ
بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ
يَكُونُ
حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ
اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ)
(الحديد/20) فاللهم وفقنا
للعمل الصالح في
الدنيا وانعم علينا بالمغفرة والرضوان في الآخرة يا رب
العالمين.
منقول