تفسير سورة عبس أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،بسم الله الرحمن الرحيم :
عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ </A>
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الدرس السابق لما ذكرنا تسع آيات لنبي الله موسى، نبهنا أحد الإخوة أننا ما ذكرنا إلا ثمان فقط، التسع هي: العصا، واليد، والسنون، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والبحر؛ هذه تسع، وبعض العلماء يجعل بدل البحر الطور: الجبل؛ في قول الله -جل وعلا-:
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ </A>
ثم بعد ذلك هذه السورة عاتب الله -جل وعلا- فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا العتاب لا يُنقص من قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يؤثر على رسالته، ولا على بلاغه؛ لأن ما بلّغه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حق، وما وقع فيه من النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف الأولى نبهه الله -جل وعلا- عليه، فكانت هذه الشريعة كاملة بتكميل الله -جل وعلا-.
وصدر هذه الصورة نزل في شأن عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله تعالى عنه- وكان رجلا أعمى، وكان أسلم قديما، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترشده في أمر الدين، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - منشغلا ببعض كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - واشتغل بدعوة أولئك، وهذا اجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -، وكان الأولى أن يصنع كما أمره ربه -جل وعلا- بعد ذلك.
وسبب نزول هذه الآية هذا مما أجمع عليه أهل التفسير، وقد ورد فيه حديثان: حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وهذا الحديث، الصحيح فيه أنه حديث مرسل، رواه الإمام مالك وغيره عن هشام بن عروة، عن عروة: أن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أم مكتوم، ليس لعائشة فيه ذكر، والذي رواه بذكر عائشة: هو يحيى بن سعيد الأموي، لكنه أخطأ في ذلك، والصواب أن هذا حديث مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد صحح ذلك الإمام. . صحح إرساله الإمام الذهبي في "تلخيص المستدرك".
وورد حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- أيضا يشهد لهذا؛ وهو حديث ظاهر إسناده أنه صحيح، والعلم عند الله -جل وعلا-، وفي حديث أنس: أن عبد الله بن أم مكتوم كان يخاطب، أو يدعو أبي بن خلف، وأيا كان، فالله -جل وعلا- قد أبهم هذين الاسمين.
قوله -جل وعلا-:
عَبَسَ وَتَوَلَّى </A>
يعني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه عبد الله بن أم مكتوم قطّب بوجهه وكلحه، وهذا إشارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرتض قدوم عبد الله بن أم مكتوم عليه؛ لأنه كاد يقطع حديثه مع أولئك الكفار.
وقوله:
وَتَوَلَّى </A>
أي: أعرض عن عبد الله بن أم مكتوم -رضي الله تعالى عنه-.
وقوله:
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى </A>
أي: لأجل أن جاءه الأعمى، وعبد الله بن أم مكتوم كان رجلا أعمى، والله -جل وعلا- هاهنا ذكره باللقب، ولم يذكره بالاسم، فبعض العلماء قالوا: إن الله -جل وعلا- ذكره بهذه الصفة -صفة العمى-؛ ليستعطف القلوب عليه، قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذا الرجل لما يقال: إنه أعمى، فهو أجدر أن يرأف به وأن يرحمه، وبعض العلماء يقول: إنه ذكره بهذا اللقب -لقب العمى-؛ ليبين عذر عبد الله بن أم مكتوم لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتحدث مع رؤساء قريش، فكأنه يقول: إن عبد الله بن أم مكتوم قطع هذا الحديث؛ لكونه أعمى لا يرى.
وبعض العلماء استشكل على قوله -جل وعلا-:
الْأَعْمَى </A>
آية الحجرات، وهي قول الله -جل وعلا-:
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ </A>
فها هنا الله -جل وعلا- لقبه بأنه أعمى، وقد قال -تعالى-:
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ </A>
؛ ذكر ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتاب "دفع إيهام الافتراض" ثم وجه ذلك بما أجاب به بعض العلماء من أنه قال:
الْأَعْمَى </A>
؛ ليقدم عذره في قطع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك التلقيب لا يؤذيه حينئذ؛ لأن -مثلا- الإنسان لما يقال: فلان أعرج، تأخر مثلا في إيصال المعاملات، وقال: فلان أعرج يعني: لا يؤاخذ، ولا يقصد ذمه ولا تلقيبه، وإنما يقصد بيان العذر الذي يجعله يتأخر، فهذه لا تحدث في نفس هذا الأعرج شيئا، وكذلك هذا الأعمى لما قدم الله -جل وعلا- عذره، فإن هذا التلقيب لا يحدث في نفسه شيئا.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الآيتين ليس بينهما تعارض أصلا؛ لاختلاف جهة القائل؛ فالقائل هنا والواصف هو الله رب العالمين، وله التصرف في خلقه، وأما في قوله -جل وعلا-:
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ </A>
فهو نهي للخلق أن ينبز بعضهم بعضا؛ لأن العبد إذا نبذ أخاه بلقب فإن هذا يحدث من الضغينة والشقاق ما جعل الله -جل وعلا- يحرم النبز.
أو يقال: إن قوله:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ </A>
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ </A>
هذا باق، وهذه الآية التي معنا هذه محل اجتهاد له - صلى الله عليه وسلم - اجتهد، وهذا لا يخرجه عن أن يكون ذا خلق عظيم، ولا يخرجه عن أن يكون خافضا جناحه للمؤمنين؛ لأنه يحتمل أنه -عليه الصلاة والسلام- رأى في هذا الصنيع تعليما لعبد الله بن أم مكتوم، كما كان - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يزجر بعض أصحابه، وهذا لا يخرجه عن أن يكون على خلق عظيم؛ لأن الخلق العظيم ليس معناه أن لا يعالج المرء الأمور بحسبها، فيحزم وقت الحزم، ويلين وقت اللين، ويرفق وقت الرفق.
هذا لا ينافي أن يكون على خلق عظيم، فالشاهد أن قوله:
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ </A>
باق، وهو - صلى الله عليه وسلم - خافض جناحه للمؤمنين، وهذه القضية اجتهد فيها - صلى الله عليه وسلم -، ولعله رأى أن في هذا الصنيع منه -عليه الصلاة والسلام- والإعراض عن عبد الله بن أم مكتوم تعليما له؛ لئلا يقطع غيره، أو هو الحديث عليه - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى.
ثم بعد ذلك لا يكون هناك إشكال بين هذه الآيات.
ثم قال -جل وعلا-:
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى </A>
أي: وما يدريك يا محمد أن عبد الله بن أم مكتوم يزكى،
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى </A>
يعني: أنه يزكّى بحيث يحصل له كمال في الإيمان، وارتفاع عن الإثم، واتعاظ وعبرة وتذكر وخشية؛ لأنه إذا استرشد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرشده؛ فإما أن تكون هذه موعظة، فينزجر العبد عما كان واقعا فيه من محارم الله، أو مقصرا فيه من الواجبات، أو تكون هذه الموعظة، أو هذا التذكير رافعا للعبد عن الجهل؛ لأن العبد قد يقع في بعض الأخطاء جهلا منه، دون أن يعلم بالحكم الشرعي، فإذا أرشد إليه، وعمل به، وخاصة أنه جاء يسعى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الحرص على اتباع النبي -عليه الصلاة والسلام- والعمل بما يقول، فإن مثل هذا إذا ذكر ووعظ وعلم انتفع.
وقوله -جل وعلا- في هذه الآية:
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى </A>
الله -جل وعلا- ذكره بهذه الصيغة بلفظ لعل، وهذه تدل على الرجاء، والرجاء يكون في الشيء الممكن القريب المتوقع الحدوث، فكأن الله -جل وعلا- يقول: هذا تزكيته قريبة وممكنة، أما أولئك الكفار فيحتمل أن تزكيتهم بعيدة أو غير ممكنة، وأما ابن أم مكتوم فَتَزَكِّيه قريب وممكن.
اصبر اصبر لعلي آتي بالآية!! هذه مما يذكر أن أحد القراء في المدينة العلماء الحفاظ - توفي هو - قرأ القرآن من أوله إلى آخره ما أخطأ حرفا إلا في سورة العصر؛ استعجمت عليه؛ وهذه آية من آيات الله.
ثم قال -جل وعلا-
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ </A>
أي: من شاء ذكر هذا الوحي المُنَزَّل على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فحفظه، أو من شاء تذكر بهذا الوحي، وبهذه الآيات التي أنزلها الله -جل وعلا- على نبيه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها تعليم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعليم لمن جاء بعده من أمته.
ثم قال -جل وعلا-:
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ </A>
أي: أن هذه الآيات في صحف مكرمة؛ وهي صحف الملائكة،
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ </A>
أي: مرفوعة القدر عند الله -جل وعلا-، مطهرة من أن يكون فيها شيء ليس حقا ولا صدقا، بل هي حق وصدق؛ لأنها منزلة من عند الله -جل وعلا-.
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ </A>
وهم الملائكة، الذين هم سفراء بين الله وخلقه، أو سفراء بين الله ورسله؛ فهم يحملون هذه الصحف ويبلغون ما فيها من آيات إلى المرسلين ،
كِرَامٍ بَرَرَةٍ </A>
وهؤلاء الملائكة وصفهم الله -جل وعلا- بأنهم كرام يعني: كرام على الله -جل وعلا-، وكرام عند ربهم.
فهذه الآيات دلت على خلق الإنسان؛ فأصله مخلوق من تراب وهو آدم عليه السلام، ثم بعد ذلك يتزاوج الذكر والأنثى، فيطأ الرجل المرأة فيخرج منه ماء، وهذا الماء وصفه الله -جل وعلا- بأنه ماء مهين أي: حقير، ثم بعد ذلك يستقر في رحم المرأة فيختلط مع مائها، وهو الذي قال الله -جل وعلا- فيه:
أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ </A>
يعني: أخلاط، ثم بعد ذلك يكون علقة، وهو الدم، ثم بعد ذلك يكون مضغة، وهو قطعة اللحم، ثم بعد ذلك يصور وتنفخ فيه الروح، ثم بعد ذلك يكسوه الله -جل وعلا- … يجعله عظاما، ثم يكسوه لحما.
هذا هو خلق الإنسان الذي بينه الله -جل وعلا- في كتابه، وفي هذه الآية قال:
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ </A>
فقدره: قال بعض العلماء فقدره أي: أنه -جل وعلا- لما خلقه، وكان جاء عليه مائة وعشرون يوما، بعث الله -جل وعلا- إليه الملك فنفخ فيه الروح، وأمره بكتابة أربع: عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، هذا هو التقدير، وبعض العلماء يقول: التقدير المراد به: إتمام الخلق؛ من إخراج اليد والرجل والعينين وغيرها، وكلها دل عليها كتاب الله -جل وعلا-.