بيعة علي
بعد مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه بقيت المدينة بلا أمير، وكان زعيم المنحرفين المصرين الغافقي بن حرب العكي هو الذي يدير شؤونها، وأتباعه هم الذين يسيطرون على أمورها، وأهلها وجلهم من الصحابة وأبنائهم لا يقدرون على فعل شيء، واستمر ذلك خمسة أيام، إلا أنه لا بد من خليفة ليعود الوضع إلى طبيعته، ويرجع الأعراب إلى بواديهم، ويؤوب المنحرفون إلى أمصارهم، والأمر يرجع في هذا للسابقين من المهاجرين والأنصار، لذا لا بد من اختيار أحدهم.
كان المنحرفون متفقين على الانتهاء من الخليفة السابق، وقد تم لهم ذلك إلا أنهم غير متفقين على الخليفة الجديد، وأهواؤهم شتى، فالمصريون يميلون إلى علي بن أبي طالب ولكنه لا يوافقهم بل ويبتعد عنهم، والبصريون هواهم مع طلحة بن عبيد الله إلا أنهم يطلبونه فلا يجدونه، والكوفيون يرغبون في الزبير بن العوام ولكنه يختفي عنهم ولا يرغب بهم. وتضايق أهل الكوفة وأهل البصرة إذ غدوا تبعاً لأهل مصر إذ لا يرغب من تميل نفوسهم إليه أن يقابلهم أو يوافقهم، وأمير المصريين هو أمير للمدينة في تلك الظروف الحرجة.
ولما لم يوافق أحد من هؤلاء الثلاثة مع المنحرفين في شيء ويرفضون الخلافة كلهم، رأوا أن يطلبوا من سعد بن أبي وقاص ذلك، وهو ممن بقي من أهل الشورى مع أولئك الثلاثة، إلا أنه ارفض منهم عندما عرضوا عليه ذلك، وكان قد اعتزل الأمر، وابتعد عن الجو العام، فاتجهوا إلى عبدالله بن عمر وكان رفضه أشد من سابقه.
واشتد الأمر على المنحرفين إذ عجزوا عن إيجاد خليفة وقد قتلوا الأمير السابق، واشتد كذلك الأمر على أهل المدينة، وقد وجدوا مدينتهم بين المنحرفين يتصرفون فيها، وهم لا يقدرون على شيء، ورأوا أنه لا بد من خليفة يخلصهم مما هم فيه، وينقذهم مما يعانون، ويسير الأمور لتعود الحالة إلى طبيعتها، ورأوا في شخص علي بن أبي طالب الخليفة المطلوب، فهو من أهل الشورى، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وله سابقة وجهاد قلما تكون لرجل آخر، وله من العلم والفقة ما يخوله ذلك، وبصورة عامة فقد كان أفضل من عليها، آنذاك، فذهبوا إليه، وطلبوا منه أن يتولى أمرهم فرفض منهم، وقال لهم : لا حاجة لي في أمركم، أن أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً، وأنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت.
ولما طال الوضع، وخاف المنحرفون من أن تصل جند الأمصار إلى المدينة، وتتسلم زمام الأمور، وتقبض على الثائرين قتلة عثمان وتعاقبهم وتقيم عليهم الحد، لذا كانت رغبتهم السرعة في مبايعة الناس لخليفة وهذا حق المهاجرين والأنصار، فإذا حدثت البيعة كان الخليفة على أقل تقدير منهم مضطراً لأن يأخذ برأيهم ما داموا في مركز قوتهم، ولا يستطيع أن يعاقبهم ما دامت المدينة في قبضتهم وتحت سيطرتهم، أو أن كثرتهم تحول دون أن يقوم بعمل ضدهم، أما إذا وصلت جنود الأمصار إلى المدينة فإنهم حينذاك لا يستطيعون قتالهم وبخاصة أن أهل المدينة ناقمين على قتلة عثمان الأمر الذي يجعلهم ينضمون لأهل الأمصار ويحاربون قتلة عثمان، وعندئذ تنالهم العقوبة، وينالهم القصاص، وتقام عليهم الحدود، ويختار أهل المدينة من يرغبون لا من يفكر به المنحرفون، ومن هذا المنطلق كانت السرعة في اختيار خليفة أهم نقطة يعمل لها المنحرفون، ولما لم يتم لهم ذلك هددوا أهل المدينة بقتل أهل الشورى وكبار الصحابة ومن يقدرون عليه من دار الهجرة إن لم يجدوا أحداً على قبول الخلافة، وقالوا لهم : دونكم يا أهل المدينة فقد أجلناكم يومين، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن علياً والزبير وأناساً كثيرين.
عرض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر على علي بن أبي طالب وجاءه الناس فقالوا : نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به من ذوي القربى، فقال علي : دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. فقالوا : ننشدك الله ألا ترى ما نرى ألا ترى الإِسلام ألا ترى الفتنة ألا تخاف الله فقال : أجبتكم لما أرى، واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، ثم افترقوا وتواعدوا في اليوم التالي فجاؤوا ومعهم طلحة والزبير وبايعوا علياً، وكان ذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين.
بايع الناس جميعاً إلا سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد وصهيب من المهاجرين، وحسان بن ثابت، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، ورافع بن خديج، وسلمة بن وقش، وأبو سعيد الخدري، وقدامة بن مظعون ومسلمة بن مخلد، وعبدالله بن سلام من الأنصار ومن كان قد غادر المدينة إلى مكة وأكثرهم من بني أمية أمثال سعيد بن العاص والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم.
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمام موقفين اثنين لا ثالث لهما:
الأول منهما :
أن يصر على رفض الأمر وعدم الموافقة على البيعة، وعندها سيبقى وضع المدينة كما هو يتسلط عليه المتمردون، ويتصرف في المدينة الأعراب والمنحرفون، بل ربما ازداد الوضع سوءاً وهو المحتمل فيعيث هؤلاء العابثون في الأرض فساداً، ويزداد قتلهم للناس، وقد ارتكبوا أكبر جريمة بقتلهم الإمام ظلماً وعدواناً، ومتى أقدم الإنسان على جريمته الأولى سهلت عليه الجرائم وأسوأ الأعمال بعد ذلك، وبالفعل فقد هددوا أصحاب الشورى وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا ما حدث أن جاءت جند من الأمصار أو طلبت لإِبعاد المتمردين عن المدينة وإقامة الحدود عليهم وإعادة نظام الأمن، فإنه يقع القتال داخل دار الهجرة ويذهب ضحيته أعداد من الصحابة، هذا بالإضافة إلى انقسام المسلمين وتفرق كلمتهم، وهذا ما يخافه العقلاء، وأهل الإِيمان، هذا بالإضافة إلى أن تدخل الجند في شؤون المدنيين، وتدخلهم في أعمال الناس، وبحثهم في أمر الخلافة لموضوع يجب الابتعاد عنه تمام الابتعاد، وهذا ما كان ينظر إليه الامام على كرم الله وجهه، ويحرص ألا يحدث، وهو الأمر الذي جعله يقبل الخلافة.
أما الموقف الثاني :
وهو قبول الخلافة والرضا بالأمر الواقع وذلك من أجل انقاذ المسلمين من فتنة عمياء يمكن أن تحدث فيما لو رفض، والخوف من تفرقة الكلمة، وإعادة الثقة الطمأنينة إلى نفوس سكان دار الهجرة، وإبعاد المتمردين والأعراب والمنحرفين عن المدينة، وإقرار الأمن، وإعطاء الهيبة للخلافة، وتطبيق منهج الله في الأرض، ومع هذا فكان رضي الله عنه على علم بأن السير في الموقف الثاني، وهو أخذ البيعة وتسلم أمر الناس حالة صعبة وفيه مشقة كبيرة وعناء شديد، إذ لا يستطيع الخليفة إقامة الحدود على الجناة والتحقيق معهم إلا بعد مرور مدة ريثما يستتب الوضع، ويتمكن الحكم، وتستعيد الخلافة هيبتها، وهذا ما لا يدركه فئة من الناس فيطالبون بالقصاص وهو غير قادر عليه، ويسألونه إقامة الحدود على القتلة وهو لا يستطيع إذ لا تزال المدينة بأيديهم، ولا بد من إخراجهم قبل ذلك وتوزيعهم في الأمصار، أو إرسالهم إلى الثغور، وتفريق كلمتهم، هذا بالإضافة إلى أن عدداً من الرجال سيرفضون البيعة، ولكن هذا لا يجعله يتوقف، وهو الذي لا يخشى في الله لومة لائم، ولا يعرف المداهنة في الحق...
فأما البيعة فيمكن أن يترك من لا يبايع باستثناء بعض رجال الشورى الذين ينظر إليهم بعض الناس ويميلون إليهم، ولهذا فقد ترك سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر، ولكنه أصر على بيعة طلحة والزبير إذ كان يطمع بهما بعض المتمردين، وأما استمهال إقامة الحدود ريثما تتاح الفرصة فظن أن الناس يدركون هذا، بل يمكن تجاوزه إذ إن إعادة الأمن والنظام وإقامة الخلافة أمر أهم وواجب شرعي، ولهذا أقدم عليه وقبل الخلافة بعد إصرار الناس عليه وبعد أن تمنع عنه ورفضه، فهو الزاهد فيها وفي الدنيا جميعها.
رأى علي رضي الله عنه وقد تسلم الخلافة أن يعمل قبل كل شيء على إعادة الأمن ولن يكون هذا إلا بإبعاد المشاغبين عن المدينة، ولن يحدث هذا إلا باعتقادهم أنه قد تم ما يريدون وهو استقرار النظام في الدولة، وهذا ما يصار إليه بزوال الخليفة السابق وقد قتلوه قبحهم الله -ثم بالخلاص من ولاته على الأمصار، هذا بالإضافة إلى أنه هو رضي الله عنه قد كانت له بعض الملاحظات على بعض الولاة لذا قرر أن يستبدل الولاة، ولكن نصحه بعض الصحابة وبعض الرجال في أن يؤخر هذا الأمر حتى يستقر الوضع، إلا أنه رفض ذلك حيث رأى أن هيبة الدولة لا تكون إذا لم يستطع الخليفة أن يعزل والياً وأن يعين غيره، وإلا فما معنى أن الوالي يتبع الخليفة، وإذا لم يستطع الإمام عزل وال، فمعنى ذلك أن الوالي بمثابة خليفة أو أنه يرفض الأوامر ويرفض البيعة أو يأخذها لنفسه، ويتعدد عندها الخلفاء، وهذا أمر غير جائز ولا يكون في الإسلام، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن العصاة والمنحرفين يرون أن الوضع غير مستقر، وبذا يبقون في المدينة وعندها لا يستطيع الخليفة أن يفعل شيئاً ولا أن يقيم حدود الله، وهو لا يخاف في الله لومة لائم، إذن فلا بد من عزل الولاة واستبدالهم.
أرسل علي الولاة إلى الأمصار فبعث إلى البصرة عثمان بن حنيف وهو من أعلام الأنصار، فدخلها وارتحل عنها واليها السابق عبدالله بن عامر متجهاً إلى مكة. وأبقى على الكوفة أبا موسى الأشعري الذي أرسل بيعته وبيعة أهل مصره إلى أمير المؤمنين. وبعث سهل بن حنيف إلى الشام، ولكنه رد من حدودها، ردته خيل معاوية بأمر أو باجتهاد منهم.
وبعث إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة، وكان قد قتل من تسلمها وهو محمد بن أبي حذيفة، فدخل مصر وأخذ البيعة لأمير المؤمنين من أهلها، إلا فريقاً قليلا منهم اعتزلوا الناس وأووا إلى (خربتا) لا يشقون عصا الطاعة، ولا يقاتلون أحداً، وبهذا فقد اختار ثلاثة ولاة من الأنصار إلى أهم الأمصار وأكثرها ثغوراً وجهاداً. أما مكة فقد بعث إليها خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، ولكنه وجد فيها كل من اعتزل الفتنة ومن اجتمع فيها من بني أمية، ومن ترك ولايته من الولاة السابقين، لذا فقد رفضت ولايته وبقيت مكة دون وال، ولكل مجموعة رجل يرجعون إليه.
وبعث علي بن أبي طالب إلى اليمن ابن عمه عبيد اللهبن عباس عاملا له عليها، فلما وصل إليها رحل عنها عاملها السابق يعلى ابن أمية واتجه إلى مكة، وهكذا خضعت دار الهجرة مركز الدولة والأمصار كلها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب باستثناء الشام التي كان يسير أمورها معاوية بن أبي سفيان إذ لم يرسل البيعة، وبهذا عقدت بيعة علي بن أبي طالب، وقام بالأمر، وأرسل إلى معاوية يطلب منه البيعة لكنه تأخر بالجواب، ينتظر ما تؤول إليه الأمور، ووضع العصاة في المدينة.
المجتَمَع الإسْلاَمي أيَّام عَليّ
لم يختلف وضع المجتمع الإسلامي أيام علي عما كان عليه سابقاً، فالشرع هو المطبق وأحكام الله هي النافذة والمعمول بها، وإنما الشيء الوحيد الذي اختلف هو متابعة الناس لما يجري في الداخل بعد أن كان الاهتمام متجهاً إلى ما يحدث في الفتوح وأحوال الثغور، هذا بالنسبة إلى عامة الناس، أما فيما يتعلق بالعمال والولاة فكان اهتمامهم أكبر إذ يتعلق الأمر بهم وبأمصارهم لذا فقد اختلف الوضع بين مصر وآخر، وهناك أمر آخر يجب ألا نغفل عنه وهو أن المسلمين استقبلوا خلافة علي بغير ما استقبلوا خلافة عثمان، فقد جاء عثمان بعد عمر القوي الشديد الذي منع الصحابة من الخروج من المدينة، وأخذهم بالحزم والشدة، فأعطاهم عثمان اللين والرفق، وأغدق عليهم في الأعطيات حسب ما اعتاد عليه من البذل والعطاء، فلانوا له وأحبوه وخاصة في أيامه الأولى، وفضله بعضهم على عمر.
وجاء علي بعد عثمان فسار بالناس سيرة عمر فلم يوسع لهم الأعطيات، ولم يعطهم النوافل من المال، واشتد على قريش وحال بينهم وبين الخروج بأية حال، وهيجه افتراق القوم إذ أن عدداً من بني أمية قد اتجهوا إلى مكة، وتفرق بعض الناس في الأمصار، واستأنف فيهم حزم عمر، وشدته، والنفس البشرية يصعب عليها الشدة بعد اللين على حين ترتاح وتطمئن للين بعد الشدة، لذا كانت نفوسهم يشوبها كثير من الوجوم والقلق بتسلم علي الأمر، هذا بالإضافة إلى تسلط المشاغبين الذين قتلوا عثمان على المدينة ولم تَطَلْهم بعدُ الحدود، ولننظر إلى حالة كل مصر وحده.
فاليمن سار إليها عبيدالله بن عباس والياً عليها من قبل علي فاستقبله، وخرج منها يعلى بن أمية، واستقر الأمر فيها، تقام الحدود، ويطبق الشرع بصورة تامة.
وأما مكة المكرمة فقد عاد إليها راجعاً عدد من أهل المدينة الذين وصل إليهم خبر مقتل سيدنا عثمان وهم في طريقهم إلى بلدهم بعد أن شهدوا موسم الحج، ورغبوا اعتزال الفتنة، فمكة حرم آمن لا يغار عليه ولا يذعر من أوى إليه، ومنهم من خرج إليها من المدينة غاضباً أو معتزلا مثل بني أمية، عبدالله ابن عمر : وردت مكة عامل علي عليها وهو خالد بن العاص بن المغيرة المخزومي، وعاشت دون وال، وبعد مدة استأذن طلحة والزبير عليا في الخروج إلى مكة لأداء العمرة فأذن لهما فخرجا، وبقيا فيها إذ وجدا الجو فيها أكثر مناسبة لهم من جو المدينة المليء بالخارجين على عثمان رضي الله عنه، وبعد مدة جاء قثم بن العباس واليا على مكة واستقر فيها، واستتب له الأمر.
ورأى الذين اعتزلوا الفتنة واستقروا في مكة أن جوها غير مناسب، وأن طلب الرزق غير متوفر، والتجارة التي اعتادوا عليها قد انقضت أيامها وقطع بينهم وبينها الزمن، ووجدوا أن البصرة أكثر ملاءمة، لهذا فقد قرروا السير إليها، وأقنعوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالخروج معهم، وكادت أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها تسير لولا أن منعها أخوها عبدالله بن عمر، وسار الموكب باتجاه البصرة، وكان يصلي فيهم عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد، وقد كان أبوه والي مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.
وكان عدد المغادرين مكة /700/ إنسان جلهم من أهل مكة والمدينة ومنهم طلحة، وعبدالله بن عامر، ويعلى بن أمية، وعبدالرحمن بن عتاب، وأم المؤمنين عائشة، ورجع من الطريق سعيد بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعبدالله بن خالد بن أسيد، وفي الطريق تبعهم الناس من الأعراب حتى كانوا ثلاثة آلاف. وهدأ الوضع في مكة بعد خروجهم. وعندما وصل الركب المكي إلى ماء الحوأب نبحتهم كلابه، فأناخت عائشة رضي الله عنها وقالت : أنا والله صاحبة كلاب الحوأب طَرُوقاً ردوني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه "ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب" فقالوا لها : ما هو بالحوأب، فسارت.
أما في المدينة فإن أهلها ينظرون إلى علي نظرة احترام وإكبار كما ينظر له كل المسلمين، إذ كان يومذاك أفضل من عليها، وقد ارتحل من الدنيا من سبقه، وقد أسرعوا إلى بيعته أو الاصرار على مبايعته لتقديرهم له قبل كل شيء، ثم للخلاص مما لحق المدينة من وجود الفئة الخارجة على النظام من قتلة عثمان، وقد استجاب بعد رفض إذ أن الأمر يستوجب وجود الأمير لإِعادة النظام، وما أن استلم حتى طلب منه عدد من الصحابة إقامة الحدود على هؤلاء المنحرفين، ولم يكن ذلك ليغيب عنه، وإنما ينتظر استتباب الوضع وقوة الخليفة بأخذ البيعة العامة والقبض على ناصية الأمر، إذ أن الحَلَّ السريع لا يستطيع أن يمارسه ما دام المنحرفون هم الذين يسيطرون على المدينة، وبيدهم القوة، والبيعة لم تأت من بعض الجهات ومنها الشام وبعض الصحابة، والمشكلة أنه في ساعة الفوضى لا يرى المرء الحل السليم إلا من خلال ما استقر ذهنه.
واشتد الصحابة في الطلب، وعلي لا يستطيع أن يفعل شيئاً. وأرسل علي الولاة إلى الأمصار، وإذ بوالي الشام سهل بن حنيف يعود إليه، وعلي الذي عرف بالشدة لم يقبل باللين، ولم يعرف التساهل بالحق، فقرر السير إلى الشام على الرغم من نصائح بعض الناصحين بإبقاء معاوية على الشام وإعطاء طلحة البصرة والزبير الكوفة ريثما تهدأ الأحوال، ولم ير أيضاً هذا عبدالله بن عباس عندما استشاره علي، وحث الناس بالنهوض إلى الشام فرأى توانيا، فلم يرغب بإخبار أحد وإنما نهض وسار مع من نهض، ودفع باللواء إلى ابنه محمد الأكبر بن الحنفية، ووجه عبدالله بن عباس إلى الميمنة، وعمر بن أبي سلمة إلى الميسرة، وأبا ليلى بن عمر بن الجراح إلى المقدمة وهو ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح، وولى قُثَم بن العباس على المدينة، وكتب إلى عماله على الأمصار وهم قيس بن سعد والي مصر وأبو موسى الأشعري والي الكوفة، وعثمان بن حنيف والي البصرة بالنهوض إلى قتال أهل الفرقة، ويبدو من عمله هذا أنه بَعِيد كل البعد عن المنحرفين قتلة عثمان إذ لم يُوَلِّ أحداً منهم وفيهم الأشداء وأهل المقدرة.
وبينما هو كذلك إذ سمع بخبر سير من سار من مكة إلى البصرة، فخرج علي إلى الربذة يريد أن يحول دون انطلاقهم إلى البصرة، إلا أنهم قد فاتوه، وكان قد ولّى على المدينة قبل خروجه منها سهل بن حنيف، وبعث قُثَم بن العباس إلى مكة، وكانت أم المؤمنين أم سلمة تريد أن تسير معه وقالت له "لولا أني أعصي الله عز وجل وأنك لا تقبله مني لخرجت معك، وهذا ابني عمر، والله لهو أعز علي من نفسي، يخرج معك يشهد مشاهدك، فخرج معه، وكان على الميسرة، ولم يزل معه، واستعمله على البحرين ثم عزله. ونصحه بعض الناصحين بأن لا يخرج من المدينة فإن خرج منها فلن يعود إليها، وطلب منه أن يرسل من نهض ويمكث هو في دار الهجرة، ولكنه أصر إلا أن يكون على رأس الناهضين. وبقي سهل بن حنيف في المدينة يسيِّر أمورها، ويُطَبِّق شرع الله فيها، ويحكمها لعلي بن أبي طالب. ووصل علي إلى ذي قار ينتظر وصول جند الأمصار.
وأما مصر فقد سار إليها قيس بن سعد بن عبادة، ودخلها من غير جهد وكان قد خرج منها الوالي السابق عبدالله بن سعد بن أبي سرح وتسلمها محمد بن أبي حذيفة إلا أنه قتل، وأخذ قيس البيعة لعلي من عامة أهلها، إلا فريقاً اعتزلوا الناس وأووا إلى (خربتا) يطلبون بثأر عثمان، ولكن لا يقاتلون أحداً، ولا يشقون عصا الطاعة، فأمهلهم قيس ومنهم : مسلمة بن مخلد، ومعاوية بن حديج، وبسر بن أبي أرطأة وغيرهم، إلا أن بعض أصحاب علي كانوا يصرون عليه أن يأمر قيسا بقتالهم أو إعطاء البيعة حتى ينتهوا من مصر من كل معارض، فطلب علي منه ذلك، فرأى أن رأيه هو الأصوب، فترك مصر، واتجه إلى علي مار بالمدينة، وجاء محمد بن أبي بكر والياً على مصر، وما زال يلح على من في (خربتا) حتى جرى القتال بين الطرفين ولم يُحْرِز محمد بن أبي بكر النصر فعزله علي وولى الأشتر النخعي مكانه، ولكنه مات مسموماً قبل أن يصل إليها، فاضطر علي أن يثبت محمد بن أبي بكر على مصر ريثما يرى رأيه، وانتدب أهل الكوفة لمساعدة إخوانهم في مصر، ولكنهم لم ينتدبوا، وعندما أصر عليهم سار جند قليل، ولكن ما وصلوا إلى مصر حتى كان عمرو ابن العاص قد دخلها، وقُتل، محمد بن أبي بكر، وهكذا أصبحت مصر بعيدة عن خلافة علي وذلك عام 38 هـ.
وأما الكوفة فقد كان واليها من قبل أبو موسى الأشعري، وأقره علي على ما تحت يده، رغبة من أهل الكوفة به، وقد بايع عنه وعن أهل الكوفة للخليفة الجديد. وكان أبو موسى محباً للعافية لا يرغب في القتال وخاصة عندما يكون القتال بين المسلمين بعضهم ضد بعض. وأهل الكوفة ليسوا على رأي واحد، فبعضهم يميل إلى الزبير، وبعضهم يرغب في علي ولكنه لا يحب القتال، وبعضهم متشدد في ذلك يرى أن القتال أمر لا بدّ منه. وكتب أمير المؤمنين إلى أبي موسى يستنهضه للقتال ولكنه لم يفعل شيئاً، فأرسل له محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر، فلم يفد ذلك شيئاً، ثم أرسل له عبدالله بن عباس والأشتر النخعي فما أجدت المناقشات التي دارت بين الطرفين، ثم أرسل له ابنه الحسن بن علي وعمار بن ياسر، وتكلم الحسن كلاماً جميلاً. ودعا أهل الكوفة لنجدة خليفتهم وعندما انطلق سار معه عدة آلاف سار بعضهم بالفرات واتخذ الآخر طريق البر، وكان مجموعهم تسعة آلاف رجل، وأخرج الأشتر النخعي أبا موسى من قصر الإمارة، فانطلق أبو موسى إلى مكة وأقام بها. وكان الخليفة قد وصل إلى ذي قار فجاءه أهل الكوفة وهو في ذلك الموضع.
وأما البصرة فقد أرسل إليها الخليفة والياً جديداً هو عثمان بن حنيف فسار إليها فدخلها، وخرج منها واليها السابق عبدالله بن عامر الذي سار إلى مكة، وكان في البصرة شيء من الفرقة والخلاف، ولم يلبث أن وصل إليها ركب مكة، فدخلها عبدالله بن عامر على غفلة من أهلها، ووصل الخبر إلى عثمان بن حنيف فتهيأ إلا أن الناس متخاذلون منهم الخائف، ومنهم القاعد، ومنهم المتخاذل، ومنهم من يطلب بثأر عثمان، ومنهم مع الوالي بجانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم دخل البصرة ركب مكة كله، والتقى في المربد، فتكلم طلحة والزبير وردّ عليهم جماعة ابن حنيف.
وكاد الناس يقتتلون، ثم تكلمت عائشة رضي الله عنها فانقسمت جماعة ابن حنيف، ومال بعضهم إلى جانب عائشة، وكان على خيل البصر حكيم به جبلة العبدي فأنشب القتال، وهو أحد الغوغائيين الذين تكلموا عن عثمان رضي الله عنه، وكاد القتال أن يتسع، إلا أن الفريقين قد اتفقا، إذ لم يكن أحد الجانبين لينظر إلى الآخر نظرة العداء أو الحقد وإنما نظرة الأخوة، والخلاف إنما هو في وجهات النظر، ولكن الغوغاء هي التي كانت تسير بالطرفين إلى التطرف أحياناً.
اتفق الجانبان على أن يبعثا رسولاً إلى المدينة لينظر هل بايع طلحة والزبير مكرهين أم لا ؟ فإن كان ذلك أخلى عثمان بن حنيف لهما البصرة، وإن كانا قد بايعا عن رضى خرجا من البصر، وأن يبقى كل فريق على ما تحت يده ريثما يعود الرسول، وينزل طلحة والزبير ومن معهما حيث شاؤوا، وأن يصلي عثمان بن حنيف بالناس، ويبقى بيت المال تحت يده، وله أمر البصرة. وذهب كعب بن ثور إلى المدينة رسولاً، فسأل أهلها عن بيعة طلحة والزبير فلم يجبه أحد، ثم أجابه أسامة بن زيد بأنهما بايعا مكرهين.
وكادت تحدث في المدينة حادثة لهذا الجواب، إذ لا يريد الناس إلا اطفاء النار وإخماد جذوتها، ورجع كعب إلى الناس بالخبر فاختلف القوم بالبصرة، وعاتب علي عامله على البصرة، وقال : إنما طلحة والزبير لم يجبرا على البيعة إلا خوفاً من الفرقة، وقلّ أنصار ابن حنيف حتى غضب عليه الغوغائيون في طرفه لهذا التصرف، انقضّ أهل السوء عليه فسجنوه، ونتفوا لحيته وحاجبيه، ثم أخرجوه حيث سار إلى علي بن أبي طالب وهو بذي قار، ولم يقتل عثمان بن حنيف لأنه لم يكن عدواً ولا مجرم حرب، وإنما كان أخاً ضعفت وجهة نظره أمام مناقشيه فقلّ أتباعه، وعدا عليه الرعاع فأخرجوه، ولو كان الخلاف كما يصوّره بعض المؤمنين لقتل أو أخذ على الأقل أسيراً فهو قائد الخصم أو رأس الجناح الآخر. وصار يصلي بالناس عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد.
وبخروج عثمان بن حنيف من البصرة أصبحت تحت إمرة الركب المكي فقتلوا من كان فيها من الأشخاص الذين شخصوا إلى المدينة، واشتركوا في حصار عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير العبدي، وكان ممن قتل حكيم بن جبلة العبدي، ولم يكن هذا القتل ليخفف من المشكلة وإنما زاد النقمة، إذ أن بعض القبائل غضبت لمقتل بعض أبنائها ممن كان من الغوغائيين، ومنهم بنو عبد القيس الذين ثاروا لمقتل حكيم بن جبلة فخرجوا على علي، أما علي فلم يتكلم في قتل هؤلاء لأنه يرغب فيه ولا علاقة له بأحد منهم، وإن كان يجب أن يدعم رأيه بأن في العجلة الندامة فالقتل السريع دون تروي أدى إلى النقمة. وكتب الركب المكي إلى بقية الأمصار أن يفعلوا فعلتهم، وأن يقتلوا من عندهم من قتلة عثمان.
أرسل علي بن أبي طالب القعقاع بن عمرو التميمي إلى البصرة، فكلم عائشة وطلحة والزبير وبينّ لهم تفرق القوم عنهم بسبب قتل الغوغائيين، وماذا يكون لو حدث هذا في كل مصر ؟ قالوا : فما رأيك ؟ قال : إن هذا أمر دواؤه التسكين واجتماع الشمل، حتى إذا صلح الأمر وهدأت الثائرة، وأمن الناس، واطمأن بعضهم إلى بعض، نظرنا في أمر الذين أحدثوا هذه الفتنة. وإني لأقول هذا وما أراه يتُّم حتى يأخذ الله من هذه الأمة ما يشاء، فقد انتشر أمرها، وألمت بها الملمات، وتعرضت لبلاء عظيم، فاستحسن القوم رأيه، وقالوا : إن وافق علي على هذا الرأي صالحناه عليه. ورجع القعقاع إلى علي راضياً وأنبأه بما حدث، فسُرّ علي بذلك أشد السرور وأعظمه.
وأقبلت الوفود من البصرة إلى معسكر علي بذي قار والتقى المضري مع المضري والربعي مع الربعي واليمني مع اليمني، وكل يتحدث في الصلح، وظن الناس كل الناس أن الأمر قد استقام، وأن الصلح قد أصبح وشيكاً، ودعوا أهل البصرة علياً أن يأتي إليهم، وأراد علي الرحيل وقال : ألا من أعان على عثمان بن عفان فلا يرتحل معنا. وهنا شعر الغوغائيون من قتلة عثمان أن الصلح سيدور عليهم، وأنه إذا تمّ لا بدّ من أن يكون عليهم، وستطالهم العقوبة، فإذن لما نبرمه على أنفسنا ؟ وتداولوا الرأي وعبدالله بن سبأ اليهودي لا يعجبه رأي حتى توصلوا إلى انشاب القتال إذا ما اقترب الطرفان بعضهم من بعض. وأرسل علي عبدالله بن عباس إلى طلحة والزبير اللذين أرسلا بدورهما محمد بن طلحة إلى علي وتحدثوا في الصلح وباتوا في ليلة من العافية.
ورحل علي إلى البصرة وعسكر بجانب معسكر أهل البصرة فأنشب الغوغائيون القتال بأسباب بسيطة وتافهة، إذ تسابّ الصبيان ثم تراموا وتتابع العبيد، حتى إذا توترت الأجواء باشر السفهاء، ولم يدخل الغوغائيون من البداية حتى لا يُعرف الكيد، وينكشف الأمر، وتفسد الخطة، وتصافّ الفريقان، وخرج علي بين الصفين ونادى طلحة والزبير فكلمهما، وقال مما قال للزبير أتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لك : "... ولكنك ستقاتله وأنت له ظالم" قال : تذكرت ذلك، ولو كنت أذكر ما خرجت، وأراد الاعتزال، وخرج على وجهه وعندما وصل إلى وادي السباع غدر به ابن جرموز وقتله. واستطاعت السبئية أن تنشب القتال، وطلب علي من الناس أن يكفوا إلا أن الأمر قد خرج من يده والتحم الفريقان، وكان جيش البصرة يزيد على الثلاثين ألفاً، وجيش الكوفة يزيد على العشرين ألفاً، وكان اللقاء في منتصف جمادى الآخرة من عام 36 هـ.
والتحم الطرفان، واشتدت المعركة أمام الجمل الذي عليه هودج عائشة رضي الله عنها حتى قتل أمامه سبعون رجلاً كل أخذ بِخِطَامه، قُتلوا واحداً بعد الآخر، ثم عُقِر الجمل فانفرجت المعركة وهزم أهل البصرة، وأصيب طلحة وجرح جرحاً بليغاً بدأ ينزف منه الدم، وحملت عائشة بهودجها إلى دار عبدالله بن خلف، وكانت فاجعة أليمة ذهب ضحيتها على رأي المؤرخين عشرة آلاف من جيش البصرة وخمسة آلاف من جيش علي، ومع ما في هذه المعركة من الهول الذي زاد فيه المؤرخون، علينا أن نتروى قليلاً فننظر هل كانت معركة بين أعداء ألداء كما توصف أم بين أحبة أوقع الشيطان بينهم فطاشت أحلامهم، ثم ثابت ؟ ويمكن أن نتعرف على هذا من النتائج، كانت رؤوس جيش البصرة لا شك طلحة والزبير وعائشة فلننظر ما الرأي بهم ؟ التقى القعقاع بن عمرو التميمي أحد قادة جيش علي وحكمائه أثناء المعركة مع طلحة وهو يقاتل جريحاً فقال له : يا أبا محمد إنك جريح فحبذا لو دخلت أحد البيوتات.
فبطل يرى قائد خصومه جريحاً فيطلب منه الخلود إلى الراحة من أجل العافية أم يجهز عليه !.
وجاء ابن جرموز بعد المعركة يستأذن علياً وقال : قل له : قاتل الزبير، فقال علي : أئذن له بشره بالنار. فهل القائد يفرح بقتل قائد خصومه أم يتأثر ثم يقول : إن قاتله لا شك في النار ؟
وزار علي عائشة بعد المعركة، وضرب من تكلم عنها، وقال عندما شيعها في غرة رجب مع أخيها محمد بن أبي بكر : أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، وأعطاها مبلغاً كبيراً من المال، وسَيَّر في ركبها عدداً من النساء. وعندما زارها في دار عبدالله بن خلف كان عدد من الجرحى المختبئين في تلك الدار، وهو يعرف مكانهم ومكان غيرهم، وقد تجاهل ذلك وكأن لم يعلم شيئاً، إذ لم يكونوا خصوماً كما يصور ذلك بعضهم فلو كانوا كذلك لنالوا ما نالوا.
كما كان قد طلب من جنده ألا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا هارباً، ولا يدخلوا داراً، ولا يحوزوا مالاً، ولا يؤذوا امرأة ولا طفلاً ولا غير مقاتل مصر معاند، وهذا كله يدل على الأخوة التامة ولكن أوقع الشيطان بينهم، ولك وجهة نظره واجتهاده الخاص، وهو عليه مأجور بإذن الله.
وبعد المعركة بثلاثة أيام ولى علي على البصرة عبدالله بن عباس، وكان أهلها قد أعطوا البيعة، وسار هو إلى الكوفة ليتهيأ إلى الشام.
أما الشام فقد كان واليها معاوية بن أبي سفيان منذ أيام عمر رضي الله عنه، وقد خَبَر أهلها وخَبَروه وأخذهم بأسلوبه الخاص فأحبوه، ولأن لهم فأطاعوه، وحزمهم فانقادوا له، ولم يريدوا غيره، فعندما حدثت الفتنة في المدينة، وتسلم الغوغائيون الأمر، وقتلوا الخليفة عثمان بن عفان مظلوماً، وخرج النعمان بن بشير إلى الشام ومعه قميص عثمان المملوء بالدماء وعليه أصابع زوجه نائلة مقطعة، وعرضه على الناس ثاروا وبكوا أولاً لقتل الخليفة مظلوماً وهو شيخ طاعن في السن، وكان قتله على يد رعاع الناس، وثانياً لأنه لم يستطع بعد ذلك أحد أن يحرك ساكناً، بل إن هؤلاء الرعاع قد سيطروا على دار الهجرة. ويجب أن نعلم أن الأخبار من المدينة إلى الشام تحتاج إلى شهر ذهاباً ومثلها إياباً وأثناء هذه المدة تَجِدّ حوادث وتحدث مشكلات جديدة إضافة إلى ما تحمل الأخبار معها من زيادات مع الزمن.
ثم جاءت الأخبار بأن البيعة قد تمت لعلي بن أبي طالب، ولكن عدداً من الصحابة لم يعطوا البيعة أمثال : سعد بن أبي وقاص وهو من رجال الشورى، وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وحسان بن ثابت، وزيد بن ثابت، وكعب بن مالك وغيرهم، وفوق كل هذا فإن طلحة والزبير قد أعطيا البيعة مكرهين وهما من رجال الشورى.
وأن رجال الشورى الذين بقوا على قيد الحياة هم : علي بن أبي طالب وهو صاحب البيعة، وطلحة والزبير لما يبايعا إلا مكرهين، وسعد بن أبي وقاص لم يبايع أبداً، فالأمر بحاجة إلى نظر، ومع هذا فإن علي لم يستطع أن يقبض على زمام الأمر، ويقيم الحدود على قتلة عثمان الذين لا يزالون يتحكمون في أمر المدينة.
هكذا وصلت الأخبار إلى الشام، وهذا ما علمه معاوية والي البلاد، وإن كانت هذه الأمور صحيحة، إلا أن روايتها كانت بأسلوب يحتم على معاوية التريث بإرسال البيعة إضافة إلى ما يجد في نفسه، وما يراه في المجتمع من حزن على الخليفة المقتول.
وتتوالى الأخبار على الشام بأن عدداً من رجالات الأمة قد اجتمعوا في مكة والتجؤوا إليها يعتزلون الفتنة، أو يعترضون على تصرفات الغوغائيين في المدينة. ويرسل علي بن أبي طالب الخليفة الراشدي الجديد عماله إلى الأمصار ويرسل فيمن يرسل سهل بن حنيف إلى الشام ليتولى أمرها، ويعزل معاوية، ويرد الوالي الجديد من حدود بلاد الشام، ويبقى معاوية في حاضرته ينتظر ما يؤول إليه الأمر، ثم تصل إليه أخبار جديدة بأن عدداً قد خرج من مكة إلى البصرة معارضين للخليفة في المدينة، على رأسهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وطلحة، والزبير، إذن يفهم من هذه الأخبار أن الأمر لم يستقر لعلي بعد ولا بد من الانتظار في البيعة، وانتظر، وانتظر معه مجتمع الشام.
وحدثت أحداث البصرة التي ذكرنا ووقعت معركة الجمل وتأسف المسلمون لما تم، وكل هذا جعل عامل الشام معاوية بن أبي سفيان ينتظر في إعطاء البيعة للخليفة الجديد، وهذا ما رآه، ورآه معه عدد من الناس، ويعد اجتهاداً.
أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فيرى غير ذلك، إذ ينظر إلى معاوية على أنه عامل للخليفة، إن طلب منه ترك العمل تخلى، وإن طلب منه الاستمرار تابع، فهو تبع وليس بمجتهد في هذا الأمر، والوالي ليس عليه إلا أن يبايع هو وأهل مصره إذا بايع أهل المدينة وقد بايعوا فلماذا هذا التواني ؟ فهل أصبح من أهل الشورى ليؤخذ رأيه في البيعة أم لا ؟ وقد عزله الخليفة فعليه الامتثال، هذه نظرة علي إلى معاوية، وهي صحيحة، أما بالنسبة إلى الأوصاع فيرى أنها غير مستقرة والمنحرفون لا يزالون في المدينة فيجب الانتهاء من البيعة، وطمأنينة الناس، فمتى تم هذا يصرفوا إلى أمصارهم، فيتوزع أمرهم، ويضعف شأنهم.
وعندما تقام عليهم الحدود ويقتص منهم بما اقترفت أيديهم، أما الآن فلهم قوتهم، ويتمكنون من المدينة فيصعب الاقتصاص، لأنه ربما إن فعل أمير المؤمنين ذلك اقتصوا هم منه ومن أهل المدينة، وهو اجتهاد، ويؤجر عليه إن شاء الله تعالى. ولم يقبل سيدنا علي من عامل الشام هذا التصرف، وليس أمامه إلا تنفيذ أوامره، وهو الذي لا يعرف إلا الشدة في الحق، ولا يعمل إلا بالحزم، واللين عنده من الضعف، لذا قرر التعبئة والنهوض إلى الشام، وعبأ الجند، وهو يريد السير إذ جد له أمر الركب المكي فسار وراءهم نحو العراق، وتغير خط حركته من الشام إلى البصرة، ووقعت معركة الجمل في منتصف جمادي الآخرة، ودخل إثرها البصرة، فأصلح فيها، فعفا عن المسيء، وواسى المنكوب، ووزع الأموال على الغالب والمغلوب، ثم ولّى عليها عبدالله ابن عباس، وعبد قضاء مدة فيها تحرك إلى الكوفة ليتابع سيره إلى الشام قصده الرئيسي الذي كان.
وصل إلى الكوفة في نهاية شهر رجب من عام 36 هـ، ومكث فيها مدة أربعة أشهر استعد خلالها للقتال، وعبأ الجند، ولم يكن يرفق بنفسه ولا بأصحابه، هكذا اعتاد خلال حياته، يسلك الطريق المستقيم مهما اعترضه من صعاب، ويحث السير فيها مهما وجد من عقبات، ولم يكن أصحابه يرفقون بأنفسهم يسيرون سير أميرهم.
أرسل علي بن أبي طالب جرير بن عبدالله البجلي إلى معاوية يطلب منه أن يبايع، وأن يدخل فيما دخل فيه الناس، ويبين حجة علي ورأيه فيما يطلب إليه، ولكن معاوية لم يعط جواباً، ورجع جرير دون جواب، ولكن بعض أصحاب علي كانوا يريدون الجواب السريع، لذا عدوا أن جريراً لم يقم بالمهمة المنوطة به كما يجب، فاسمعه الأشتر كلاماً تأثر منه، فغادر المعسكر، وأقام في قرقيساء عند التقاء نهر الخابور بنهر الفرات. وبالمقابل فقد أرسل معاوية رسلاً كان منهم أبو مسلم الخولاني، ولكن لم تؤد تلك الرسل إلى نتيجة، وهذا ما جعل أصحاب علي يحثونه للسير، فما دخل شهر ذي الحجة إلا وكانت طلائع علي في بلاد الشام إلا أنه أمرهم ألا يبدؤوا بقتال قبل أن يدركهم...
وعلم معاوية بحركة جيش العراق فأسرع بجند الشام، ووصل قبل علي إلى صفين، ونزل مكاناً مناسباً يمكنه وجنده من الشرب من نهر الفرات، وعندما وصل علي إلى ذلك المكان وجد جنده في ظمأ، فطلب من معاوية أن يكون الماء حراً، ولكنه لم يحصل على جواب، الأمر الذي أدى إلى احتكاك، وانتصر جند العراق وأزاحوا جند الشام عن مواقعهم، ولكن علياً أمر أن يكون الماء حراً يشرب منه الطرفان بكل وقت يريدون.
وأقام الفريقان عدة أيام يلتقون على الماء، ويسعى بعضهم إلى بعض، وربما يسمرون معاً دون قتال ولكنه جدال ومناقشات تحدث، وربما يقف المرء أمام هذا طويلاً يسترجع ما صوره المؤرخون عن الخصومة العنيفة بين الجانبين، والرغبة الملحة من كليهما لقتل الآخر، وما هي كذلك إن هي إلا خلاف في الرأي، وأخوة مضمرة غير ظاهرة بسبب ذلك التباين في الاجتهاد.
ثم وقع القتال، ولم يكن ذلك الهجوم الكاسح بكلالامكانات وبكافة الطاقات، وكل منهما يبغي استئصال الآخر، وإنما هذا ما كان يخشاه الجانبان فإن القتل من أي طرف إنما هو اضعاف للمسلمين، لأن هؤلاء الحضور من أي جانب كان إنما هم جند المسلمين وقوتهم، وعلى عاتقهم حماية الثغور، واتمام الفتوحات، لذا كانت تتقدم فرقة إلى فرقة لعل الله يصلح الأمور، وتثوب العقول إلى رشدها، واستمر ذلك مدة شهر ذي الحجة، وأهل شهر المحرم، فتوقف القتال، وتصافوا لعلهم يتصالحون، وكثرت السفراء بين الفريقين ولكن دون جدوى. ولا بد هنا من وقفة قصيرة هل يترك الحقد لهم مجالاً للتفكير بالتوقف عن القتال لو كان هناك حقد ؟ إلا أن النفوس طيبة، وبالقلوب محبة صادقة تستغل أي شيء لعل الأمر يهدأ ويتم الصلح. ومع ذلك فقد بقي كل على رأيه مصر على موقفه، علي واضح بيّن رأيه، ومعاوية لا يبدي تجاوباً، وكان لابد من القتال العام.
عادت الفرق من الجانبين يناوش بعضها بعضاً، واستمر ذلك مدة النصف الأول من شهر صفر من عام 37 هـ، فلما رأى الطرفان أن التأخير لا يفيد كان لا بد من حملة عامة، وكانت، واستمر القتال ثلاثة أيام قتل من الفريقين العدد الكثير، فقد قتل عمار بن ياسر، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص من أصحاب علي، وقتل عبيدالله بن عمر بن الخطاب من أصحاب معاوية، وظهرت علائم الهزيمة على جيش الشام، ورفعت المصاحف، وتوقف القتال، وعلى الرغم مما قيل من أن العراق لم يكن قسم منهم يرغب في وقف القتال، ومنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نفسه، والاشتر النخعي أحد القادة البارزين والذي استمر في القتال على الرغم من إعطاء الأوامر له بالكف عن متابعة القتال، إلا أن الأمر قد تم، وتوقف القتال، فالمسلمون ينتظرون من كل بارقة أمل أن يكون فيها الصلح، ولو لما يكن ذلك لم توقف القتال، والنصر قد لاح لفريق وهو الطرف الشرعي، ويقاتل بعناد الطرف المعاند حسب رأي أمير المؤمنين على الأقل. ولما سأل الأشتر النخعي معاوية بن أبي سفيان عن رأيه، أجابه بفكرة الحكمين.
توقف القتال، وكتبت صحيفة التحكيم، وشهد عليها رجال من الطرفين، وجند الشام راضون وجند العراق بين راض وساخط وساكت مكرهاً. وبعد يومين من ذلك العقد أذن علي بالرحيل إلى الكوفة بعد أن دفنوا موتاهم، وسار الموكب نحو الكوفة، على حين تحرك معاوية بجيشه نحو الشام.
لم يدخل جيش علي كله الكوفة كما خرج منها، وإنما انحازت جماعة منه إلى حروراء مخالفين ما في صحيفة التحكيم، وغاضبين عما تم، وقد رتبوا أمورهم، فجعلوا أمر الحرب إلى شبث بن ربعي التميمي، وكان عبدالله بن الكواء يصلي بالقوم، فأرسل علي إليهم الرسل علهم يعودون إلى صوابهم، ويرجعون إلى إخوانهم وربما كانوا يفكرون في ذلك، لذلك كانوا يطالبون علياً بالعودة إلى القتال وترك التحكيم، وعاد بعضهم، ومنهم أمير حربهم شبث بن ربعي التميمي، ثم أرسل علي إليهم عبدالله بن عباس فناقشهم وأطال معهم الجدال، ثم ذهب إليهم علي بنفسه وحاجهم، وعادوا جميعاً فدخلوا الكوفة، وظن أن الأمر قد انتهى، إلا أنهم بقوا على الدوام يعلنون عن آرائهم، ويصيحون صحيتهم لا حكم إلا لله التي يقول عنها أمير المؤمنين : كلمة حق أريد بها باطل، ويناقشون، ويظنون أن علياً سيعود إلى القتال، وإنما ينتظر الناس حتى تستريح، وبعدها ينهض للحرب.
اجتمع الحكماء في دومة الجندل، ولم يتفقا على شيء بل رجعا من غير تفاهم، ولكن ليس ما ذكره المؤرخون بالصحيح، فلم يكن أبو موسى الأشعري ذلك الرجل المغفل البسيط الذي يلعب به، وهو الصحابي الجليل، والوالي لعمر بن الخطاب على الأمصار، وعمر لا يمكن أن يولي عاملاً من النوع الذي ينعت به المؤرخون أبا موسى، كما أن عمرو بن العاص لم يكن ذلك الرجل من الغدر، وقلة الدين، وعدم الوفاء والمروءة، وإنما افترقا من غير اتفاق.
أراد علي بعد فشل التحكيم أن يستعد للنهوض إلى الشام، وطلب من واليه على البصرة عبدالله بن عباس أن يستعد بأهل مصره، فأرسل ابن عباس المقاتلين، إلا أن علياً قد لاحظ أولئك الذين خرجوا من عسكره بالأمس ثم عادوا، ثم بدؤوا يتسللون رتلاً إثر رتل، ويكتبون إلى إخوانهم في البصرة ليوافوهم في النهروان، فسكت عنهم، وأراد أن يتركهم وما خرجوا له، وقال : إن سكتوا تركناهم، وإن تكلموا جادلناهم، وإن أفسدوا قاتلناهم، ورغب أن يسير إلى الشام ويتركهم وشأنهم، إلا أن فسادهم قد بدأ، فقد قتلوا عبدالله بن خباب بن الأرت وذبحوه ذبح النعاج، وقتلوا نسوة معه، فأرسل إليهم رسولاً فقتلوه، عندها اضطر إلى العودة إليهم، والتخلص منهم بصورة من الصور قبل أن يسير ويتركهم وراءه يعيثون في الأرض الفساد.
فسار إليهم، وجادلهم، وطلب منهم تسليم قتلة عبدالله بن خباب بن الارت فقالوا : كلنا قتلة، وتمادوا في الرد، ثم هجموا على جيشه، وبدؤوا بالقتال، فاضطر إلى حربهم وإبادتهم في مكانهم في النهروان، وكان أكثرهم من أهل الكوفة، وجيشه من أهل الكوفة، فقد قتل زيد بن عدي بن حاتم معهم، وأبوه عدي بن حاتم في جيش علي، وأكثر القتلى كانوا بهذه الصورة أو قريبة منها، فغدا جيشه حزيناً كئيباً على قتلى خصومه أو قتلى أهله فتغيرت النفوس، وتبدلت الطباع، وعلى هذه الصورة كانت تلك المعارك التي دارت في ذلك الوقت بين المسلمين : اختلاف في وجهات النظر وفي الرأي فينحاز كل فرد إلى جانب، ويقاتل فمن قتل فقد انتهى، ومن قتل فقد أصيب بمن فقد.
رأى علي بن أبي طالب أن ينتظر قليلاً ليستريح الناس من تعب القتال، ولينسى الذي أصيب مصيبته، وكان معاوية بن أبي سفيان بالشام قد سمع استعداد علي للسير إلى الشام فأسرع إلى صفين ولكن لم يجد للعراق جيشاً، وانتظر، وجاءت أخبار الخوارج، وما حدث بينهم وبين علي، فعرف الأمر، وقفل راجعاً إلى الشام وقد أراح واستراح.
رأى علي أن جنده قد استراحوا وحصلوا على ما أحبوا فدعاهم للقتال فلم ينفروا، وحثهم فلم يستجيبوا، وحرضهم فلم يسمعوا، وكان يخطبهم، ويقسو عليهم، فيسمعون ثم يخرجون ولكنهم كأنهم لم يسمعوا كلاماً حتى ضاق بهم علي رضي الله عنه ذرعاً وتمنى لو لم يعرفهم، وكانت حياته معهم محنة شاقة، وعيشاً مليئاً بالمشاق والصعاب والمنغصات يأمر فلا يطاع،ويدعو فلا يستجاب له، ولربما حدث هذا مع أهل الكوفة بسبب ما خاضوا من حروب من إمامهم، إلا أنهم رأوها عندما فكروا أنها بين المسلمين بعضهم مع بعض، وبسبب الحزن الذي أصابهم بعدما فقدوا إخوانهم في النهروان، وربما بسبب ما لاحظوه من توقف الفتوحات، وعدم امتداد سلطان الدولة كما كان، بل أخذ في الاضطراب، إذ طمع الروم بثغور الشام فأسكتهم معاوية بدفع جزء من المال ريثما تنتهي أوضاع المسلمين، واضطربت ثغور المشرق على عمال علي وكان يكلفه العناء الكبير حتى يهدأ الوضع وتستقر الحال.
وربما كان بسبب أوضاعهم المادية الحسنة إذ كان علي رضي الله عنه يقسم لهم المال باستمرار، ويعطيهم أعطياتهم، ويحب بين المدة والمدة أن يكنس بيت المال ويصلي فيه ركعتين، فلربما وجدوا في ذلك راحة مغرية، ودعة مطمعة فأخلدتهم إلى الأرض، ورغبتهم في الاستقرار. وكل هذا يجعل أمر علي صعباً وحياته قاسية وفي الوقت نفسه يبعد التفكير عند معاوية عن البيعة والدخول فيما دخل فيه الناس، حيث يرى أن وضع الخليفة غير مستقر، وكلمته غير مسموعة، وعدداً من الصحابة لم يبايعوا ...
وظهر علي أنه قد انتهى من الخوارج في النهروان، إلا أنه قد تبين له بعد حين أنه ما انتهى إلا من عدد قليل منهم أو جزء منهم، وأن في معسكره في الكوفة عدداً منهم، وكانوا يجاهرون برأيهم، ويناقشونهم، وهذا ما زاده إلا غماً على غم، ولما رأى ما رأى، ونظر إلى أنه يدعو فلا يستجاب له، لذا كان هادئ الطبع يناقشهم ويستمع إليهم، ولا يمنع عنهم أعطياتهم، وكانوا يعايشونه ويعايشون عامله على البصرة، ويخرجون تحت جنح الظلام ليلتقي بعضهم مع بعض، وقد يعيشون الفساد، ويقتلون إن رأوا مسلماً، فكان علي لذلك يتمنى الموت، ويقول : ما يؤخر أشقاها؟ أي ما يمنع أشقى الناس أن يقتله، ويريحه مما يجد من أصحابه، وكان يعلم أنه سيموت شهيداً حسبما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه سيقتله أشقى الأمة.
وأصبح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الكوفة، وواليه عبدالله بن عباس في البصرة يأمران فلا يجابان، الأمر الذي جعل عبدالله بن عباس يفكر في الخلاص مما هو فيه كما يفكر الخليفة بالذات، ويقال إن ابن عباس قد ترك الولاية لزياد بن أبيه، وارتحل إلى مكة، ليعيش فيها بعد أن أعياه أصحابه، والحقيقة أنه لم يترك، بل بقي فيها حتى قتل الخليفة، بل وحتى بايع الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، ثم سافر بعد ذلك إلى مكة، ولربما لو كان علي وزيراً لفعل ذلك لشدة ما وجد من رعاياه، ولكن الأمير لا يمكن أن يفعل ذلك.
ووجد جند الشام أن الخليفة لا يطاع، ولم يعد له إلا الرمز في السياسة الشامية، ولكنه يقوم بادارة البلاد بكل حزم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فأمعنوا في المعارضة. فاستطاع عمرو بن العاص أن يدخل مصر، وأن يحكمها بعد مقتل محمد بن أبي بكر والي علي عليها، ولم يستطع الاشتر النخعي أن يصل إليها، إذ مات بالطريق وهو إليها وذلك عام 38 هـ، إذا أن الأشتر كان مع علي في صفين فلما عاد منها أعاده إلى عمله بالجزيرة أميراً على مدينة (نصيبين) ثم وجهه إلى مصر فمات مسموماً. أما قيس بن سعد بن عبادة فكان على شرطة علي.
أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى البصرة عبدالله بن عامر الحضرمي حيث يوجد في هذا المصر من يطالب بثأر سيدنا عثمان، ومن نكب في معركة الجمل، فحدثت اضطرابات، ولكن لم يصل إلى نتائج مرضية له.
وفي عام 39 هـ، فرق معاوية جيشه على أطراف أملاك علي، فأرسل النعمان بن بشير في ألفي رجل إلى عين التمر، وأرسل سفيان بن عوف في ستة آلاف إلى هيت، فلم يجد بها أحداً، فسار إلى الأنبار فأغار عليها ثم عاد. وأرسل الضحاك بن قيس إلى جهات تدمر، ولكنه هزم أمام حجر بن عدي الكندي قائد علي. وأرسل عبدالله بن مسعدة الفزاري في أل